يوجد من الإسلاميِّين - فضلًا عن غيرهم - مَن يركِّز على الهدم، كأنَّه هو الغاية، ولا يكادُ يُيَمِّم وَجهه شطر البناء إلَّا قليلًا، بل بلغ الأمر بهؤلاء درجةَ رَبْط الإصلاح والإفساد بعلاقة جدليَّة؛ حيثُ لا يتصوَّرون القيامَ بعمل صالحٍ إلَّا إذا سبَقه بالضَّرورة إفسادٌ؛ كإراقة دماء، أو إقصاء، أو نفي، أو تلطيخ سمعة، أو نسف بناء قائم، أو اجتثاث جذور من أوصالها.
فتراهم يعجلون الهَدْمَ، ويُؤجِّلون البناء، ويرفضون المساهمة البسيطة في العمل التغييري، سياسيًّا واجتماعيًّا، وتربويًّا وإعلاميًّا واقتصاديًّا؛ بدعوى أنَّ ذلك ترقيعٌ، ولا يقبلون اليومَ بأقلَّ من إعمال مَعَاوِل الهدم ماديًّا ومعنويًّا، وتقديم الوعود بإصلاح العمل غدًا.
هكذا فعل إخوةُ يوسف عليه السلام: ? اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ? [يوسف: 9]، متى يكونون صالحين؟ بعد قتل يوسف أو الكَيْد له! إنَّه الشيطانُ يضع أمام أصحابِ الهمم المُنحطَّة والنُّفوس المريضة عوائقَ تَجعلهم لا يبطئون في السَّير فحسب، وإنَّما يضلون الطريق؛ ? وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ? [الكهف: 104].
وحتَّى لا يَجِدُّوا في السير يَخلُق لهم الشيطانُ موانعَ من داخل الصَّفِّ، فينشغلون بإزالتها، ويتركون ساحاتِ الدَّعوة، والتعاوُن على البِرِّ والتَّقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويطول عليهم الأَمَدُ، فينسَوْن العَدُوَّ الحقيقيَّ في أنفسهم وفي مُحيطهم، ويصبحُ دأبُهم ودَيْدَنُهم العدوَّ الذي اصطنعه لهم الشيطان، وقد يكون واحدًا من أبناء الصَّفِّ المخلصين، أو عنصرًا من أصحابِ السابقة، أو مُجرد مَحلٍّ لرأي مُخالف في بعض الفروع، أو عرَضًا جزئيًّا زائلًا لا يستحقُّ الالتفاتَ الآن إلَّا بمقدارٍ ضئيل.
بماذا نفسِّر هتافاتٍ جَابَتْ بَعْضَ العَرَصَات تُنادي باسم الإسلام: أنْ لا راحةَ إلَّا بإزالة فلان وهو إسلامي؟! ماذا يعني التنادي بإنكار وجود هذه الجماعة أو تلك، وأنْ لا وجودَ إلاَّ لجماعتي وحدَها، والويلُ والثُّبور لغيرها؟! وكيف يُستعان عند المحنة بأولئك الذين كانوا منبوذين بالأمس؟ تمامًا كما حدث لإخوة يوسف الذين فعلوا فعلتهم، ثم قالوا له: ? يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ? [يوسف: 88].
إنَّ بناء مَجدِ إنسانٍ أو تنظيمٍ على الجماجم والجُثَث - ليس من الإسلام ولا من المروءة، وقد ظنَّ ابن آدم الأول أنَّه بقتلِ أخيه تكون له الحُظوة، لكن حدث العكس؛ ? فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين ? [المائدة: 31]، وحتَّى في العمل التغييري الاجتماعي يُؤدي التركيز على إزالة القائم بأيِّ ثَمن، وكشرطٍ سابق للإنجاز القويم - إلى تجذُّر روحِ الهدم، وتوطُّن الانتقام، والتلذُّذ بالتحطيم، حتَّى إذا حان وقت البناء - كما كانوا يعدون - كانت السلبية، والتآكل، والاستمرار في الهدم، والانسحاب، ويقع كلُّ ذلك هذه المرة باسم الإسلام، وسُنَّة الله الماضية لا تُحابي أحدًا مَهْمَا كانت نيته خالصة؛ ? إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ? [يونس: 81].
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.