ضربٌ من الشقاء الذي لا يُطاق، وعَجبٌ طويل لا ينقضي، أن تمرَّ بالمجتمعات دروسٌ وتجارِبُ، يَفِيد من نتائجها القاصي قبل الداني، ويتَّعظ بها الأمواتُ فضلًا عن الأحياء، ثم تُصرُّ مجتمعاتٌ أخرى بجوارها على أن تمر بالتجارب ذاتها، ظانةً أنها ستقطف ثمارًا جديدة، أو تعود بنتائجَ مختلفةٍ.
لا يختلف الباحثون أنه لدى ضبطِ المتغيرات، فإن النتائج لا يمكن أن تتغيَّر ولا أن تتبدَّل، ومَن ظنَّ غيرَ ذلك، فهو على جانب من الجنون، يجب علاجه منه حتى يبرأ ويشفى، وإن لم يكن علاجٌ، فليُعزل وحده، وليُحجر عليه؛ لئلا تنتقلَ العدوى منه لغيره ممن هم في عافية.
في الوقت الذي تُنادي فيه كثيرٌ مِن المجتمعات مِن حولنا إلى تكوينِ لجانٍ احتسابيَّة، وإنشاءِ أجهزةِ رقابةٍ دينية؛ بناءً على التجرِبة الناجحة التي مرَّت بها المملكةُ، وهي الدولة الوحيدة على مستوى العالم - فيما أعلم - التي يُطبَّق فيها الاحتسابُ على مستوى الدولة، وبإشرافٍ ودعم مباشرَينِ منها.
أقول: في ذلك الوقت الذي ينادي إخوانٌ لنا - وبقوَّة - إلى نقل تجربتنا الناجحة إليهم، نرى مِن بني جلدتنا، ومِن المتكلِّمين بألسنتنا، والكُتَّاب في جرائدنا، وممَّن يُنسَبون إلى الثقافة - مَن يُصرُّ على تبديل نعمة الله كفرًا، وإحلالِ قومِه دارَ البوار، بفتح نوافذَ، وإيجاد ثغراتٍ لنقل تجارِب الغرب والشرق إلينا، وهي التجارب الفاشلة التي ينادي عقلاؤهم بالتحوُّلِ عنها، بعد أن قطفوا ثمارَها المُرَّة، منكراتٍ ظاهرةً، واعتداءاتٍ على الشرف سافرةً، ووأدًا للفضيلة، وإحياءً للرَّذيلة، بل وأمراضًا حسية مزمنة، وأدواءً لا علاج لها؛ جزاء وفاقًا لانتشار الفواحش والإعلان بها، ((ولم تَظهَرِ الفاحشةُ في قوم قط، حتى يُعلنوا بها، إلَّا فشا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضتْ في أسلافهم الذين مضَوْا)).
لا يدري المرءُ بأيِّ عقلٍ يُفكِّر هؤلاء الحمقى المأفونون؟ ولا إلى أي وادٍ سحيق يريدون أن يُلقُوا بالمجتمع؟
أمَّا العقل، فلا أظنُّهم قد أفسحوا له المجالَ؛ ليضبطَ تصرُّفاتِهم، ولكنه الهوى الذي سيطر على عقولِهم، وحبُّ الشهوات الذي مَلَك ألبابَهم، فعَمُوا عن سبيل الحقِّ وصَمُّوا، ووقعوا في حمأة الباطل، وارتكسوا في أوحاله، فصار الإفسادُ هو هدفَهم، شعروا بذلك أم لم يشعروا.
لم تزل الصحف تطالعنا في كل يوم بخبرِ ساحرٍ قبضَتِ الهيئةُ عليه، أو بدعة حاربتْها، ووقفتْ لمُحييها بالمرصاد، أو مصنعٍ للخمور قُضي عليه، أو فتاة أُنقذت من براثن شابٍّ حاول ابتزازها، أو اجتماع رقص فُضح أمره، أو وكر دعارة تمَّتْ مداهمتُه، أو خلوة غير شرعية ضُبِطَ مُرتكبوها، وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
أما المؤمنون الذين يهمهم صلاحُ مجتمعهم، ويحرصون على بقائه سليمًا نظيفًا طاهرًا، خاليًا من أدواء الشبهات وأمراض الشهوات - فمِثلُ هذه الأخبار تبعث في نفوسهم تقديرَ الهيئة، وإكبارَ رجالها وإعزازَهم، وتستميل قلوبَهم وألسنتَهم وأقلامَهم إلى محبَّتِهم، والدعاءِ لهم، والثناءِ عليهم، والذبِّ عن أعراضهم.
وأما أصحاب القلوب المريضة، ومتَّبِعو الشهوات، ممن يريدون أن يميل المجتمع إلى الفساد ميلًا عظيمًا - فتراهم يسارعون في نقد الهيئة، وتحميلها نتائجَ أخطاء الهاربين منها، وتلك شِنْشِنَةٌ من أخْزَم معروفةٌ؛ إذ إن طالب الشهوة، ومبتغي الفساد، لا يجد في نفسه كرهًا أعظم من كرهه لمن يَحُولُ بينه وبين شهوته.
ومن ثَم فالشهوانيون في مجتمعنا لا يرى أحدُهم صورةً أقبحَ من صورة رجل ملتحٍ قد ارتدى عباءته، وهو يركب سيارة شعارها بحر وسفينة، لم يعلمْ ذلك الشهوانيُّ المسكين أنه سيكون أولَ الضحايا لو غرقت تلك السفينةُ في بحر الشهوات.
الحقيقة أني لم أُجرِ إحصائيةً لما تبذله الهيئةُ من جهود في إنكار المنكرات، ولا ما تمَّ ضبطُه من مخالفات شرعية على أيدي رجالها الأبطال؛ لكني أرى - كما يرى غيري - أنه ما مِن يوم تُشرِق شمسُه، إلا وللهيئة فيه جهدٌ مشكور، ونجاح مذكور، تُسجله الصحف، وتنقله الجرائد.
ولو أن مَن يكتبون ضد الهيئة - متأثِّرين بروايات ملفقة، وشائعات مغرضة - لو أن أحدَهم كلَّف نفسَه يومًا بزيارة أقرب مركز للهيئة في حيِّه، أو مدينته، أو منطقته، لرَأَى بِلُغةِ الأرقام حجمَ تلك الجهود المبذولة، ولما كاد يصدق النتائج الحاصلة، والتي لا تقِلُّ عن جهود رجال الأمن في مراكزهم ومخافرهم.
وإذا كنا سنُحارب كلَّ مَن يَحُول بيننا وبين شهواتنا، فلماذا لا نحارب جميعَ أجهزة الدولة، وننادي بالإطاحة بها كلها؟!
إذ ما مِن جهاز إلا ولديه أنظمةٌ وتعليمات، وله في تطبيقها طرقٌ وممارسات تخالف أهواءَنا وشهواتِنا، وتمنع من تحقيق مطالبنا ورغباتنا، فالمرور - مثلًا - يمنع زيادةَ السرعة عن الحد المسموح به نظامًا، ويسجن على ذلك، ويصادر السيارة لمدة معينة، والدوريات الأمنية تطارد اللصوصَ، وتضيِّق على السراق، وتقطع عليهم الخط قبل أن يعتدوا على أموال الآخرين، والمدارس تَحُول بين المراهقين وكثيرٍ مما يشتهون ويتمنَّوْن.
فهل رأينا أحدًا ينادي بإلغاء كلِّ هذه الأجهزة؛ لأنها لم تمكِّن أولئك من شهواتِ نفوسِهم؟!
إنه لَسَوْقٌ للأمَّة إلى الهلاك أن تُسيِّرها شراذمُ من أصحاب الشهوات، ويُمْلُوا عليها - بإلحاح غريب - أن تلغي جهازًا يتولَّى عملًا من أخص الأعمال التي أُمرت بالقيام به، وجُعلتْ فيه خَيْريتُها وعزَّتُها، هذا الجهاز الذي يَحمِل عنها فرضًا، لا يجوز بحال إسقاطُه ولا التفريط فيه، وإذا كانت الأمَّة الآن تتلمس لنفسها العذرَ في التقصير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ثمة نُوَّابًا نصبهم الإمامُ لهذا الشأن العظيم.
فماذا عساها أن تفعل لو أُلغي هذا الجهاز؟ ماذا عساها أن تفعل إذا تعيَّنت المسؤولية على كلِّ فرد فيها بعينه، واتَّسعتْ دائرةُ الواجب، وعَظُمَ الحِمل؟
هل ستستنفر قُواها إذ ذاك، ويقوم كل فرد فيها بالواجب، أو ستنتظر حتى يأتيَها عذابُ الله وهي مقيمة على تَركِها شعيرةً من أعظم الشعائر، التي وفَّرت لها سياجًا منيعًا، وبنتْ لها حصنًا حصينًا من الهلاك والعذاب، بوعد الله لها، حيث قال: ? وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ? [هود: 117].
وبوعد نبيِّه حين قال: ((مَثَلُ القائم في حدود الله والواقع فيها، كمَثَلِ قومٍ استَهَمُوا على سفينةٍ، فصار بعضُهم أعلاها، وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلها إذا استقَوْا مِن الماء، مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقْنا في نصيبِنا خرقًا، ولم نؤذِ مَن فوقَنا، فإن تركوهم وما أرادوا، هلَكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم، نجَوْا، ونجوا جميعًا)).
ولو كانت القضيةُ قضيةَ أفضليةٍ أو أولوية، لهانتْ، ولكان للمرء مندوحةٌ أن يأخذ بالأَولى والأفضل، أو يكتفي بالمفضول ويترك الفاضل؛ لكنها قضيةُ نجاةٍ أو هلاك، قضيةُ نصرٍ مِن الله لمَن قام بأمره، أو خذلان لمن ولَّى ظهْرَه ولم يرفع بأمر الله رأسًا، ولم يتمعر وجهُه فيه يومًا.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الإسلامُ أن تَعبُد اللهَ لا تُشرك به شيئًا، وتُقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتَصوم رمضان، وتَحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتَسلِيمك على أهلك، فمَن انتقص شيئًا منهن، فهو سهم من الإسلام يَدَعُه، ومَن تركهن، فقد ولَّى الإسلامَ ظهرَه)).
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل عليَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فعرفتُ في وجهه أنْ قد حضره شيءٌ، فتوضأ وما كلَّم أحدًا، فلصقتُ بالحجرة أستمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((يا أيها الناس، إن الله يقول لكم: مُرُوا بالمعروف، وانهَوْا عن المنكر، قبل أن تَدْعوا فلا أُجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم))، فما زاد عليهن حتى نزل.
وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ? [المائدة: 105]، وإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الناس إذا رأَوُا الظالمَ، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمَّهم اللهُ بعقاب مِن عنده)).
يا أمة الإسلام:
لا مناصَ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا مفرَّ من مسؤولية الإصلاح، والحِمل لا بد منه في الدنيا أو في الآخرة، ومِن الغباء والغش للنفس أن تتجاهل حِملَها في دارٍ تَقدرُ فيها عليه، وتَجد مَن يعينها؛ لتلقاه كاملًا في يوم لا مفرَّ لها منه، ولا قدرة لها على حمله، ولا معين لها ولا ناصر؛ ? وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ? [فاطر: 18].
فيا معشر مَن أكرمهم الله:
انتبِهُوا وتمسَّكوا بالحق؛ فإنكم إن تمسَّكتم بما أُمرتُم به، فأبشروا بالعز والنصر والتمكين؛ ? وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ? [محمد: 38]، وحذارِ حذار من الانسياق وراء متَّبِعي الشهوات، والمنحرفين عن الجادة، فإنما يريدون لكم الجنوح إلى طرقٍ نهايتُها الهاويةُ، ولو راقَ لكم السيرُ فيها بادي الرأي؛ ? وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ? [النساء: 27، 28].
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.