سبب كتابة هذا العنوان لهذه الخاطرة هو مروري على ترجمة قُطرب العالم الكبير صاحب المثلث اللغوي البديع، الذي سُمي بقطْرب، واسمه الحقيقي أبو علي محمد بن المستنير، وقد سُمِّي قطربًا؛ لأن سيبويه كان يخرج فيراه بالأسحار على بابه، فيقول له: إنما أنت قطرب ليلٍ، والقطْرب: دويبة لا تزال تدب، ولا تفتر، وقد كان هذا العالم شيخًا للجاحظ بعد ذلك، فهو تلميذ سيبويه وشيخ الجاحظ، وقد خفَت نجمه؛ لأنه موقعه بين الشمس والقمر - سيبويه والجاحظ - وهو النجم لذا لم يأخذ حظَّه كثيرًا في كتب العلماء، ولم ينَل حظوة كبيرة من الشهرة، لكنه يُعد أنبل وأذكى طلاب سيبويه..
إنك لتعجب وتأخذك الدهشة عن اجتهاده وحاله في طلب العلم، وهو يأتي في وقت الأسحار إلى شيخه سيبويه؛ ليستفيد منه، ويسجل تلك المسائل التي يلقيها عليها شيخه، فهِمتُه تناطح الثريا، وعزمه يفتِّت الصخر، وطموحه لا حد له، ولكل مجتهد نصيب، فمن قدَّم أعزَّ أوقاته في طلبِ العلم، سيرى النتيجة واضحة شاهدة للعيان بعد حينٍ من مداومته على هذا السير، وسنرى في آخر المقال ماذا قدم للأمة قطرب..
ومن قطاربة الليل ما جاء في ترتيب المدارك للقاضي عياض أثناء ترجمة عبدالرحمن بن القاسم أحد أصحاب مالك، وقد كان آية في الاجتهاد وهو أحد نقلة مذهب الإمام مالك:
قال رحمه الله:
كنت آتي مالكًا غَلسًا، فأسأله عن مسألتين وثلاث وأربع، وكنت أجد منه في ذلك الوقت انشراح صدر، فكنت آتى كل سحر، فتوسدت مرة عتبته، فغلبتني عيني، فنمت وخرج مالك إلى المسجد ولم أشعر به.
فركضتني جاريةٌ سوداء له برجلها، وقالت لي: إن مولاك قد خرج، ليس يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة، قلما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة، فظنت السوداء أنه مولاه من كثرة اختلافه إليه....
أتدرون كم مكث يطلب العلم على يد الإمام مالك؟ لقد مكث على حالته هذه سبعة عشر سنة وقد أكرمه الله بهذه الصحبة الطويلة للإمام مالك فنال منه علمًا جمًّا.
ومما رواه الثقات أن محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله كان لا ينام الليل، وكان عنده الماء يزيل نومه به، وكان يقول: إن النوم من الحرارة فلا بد مِن دفعه بالماء البارد، وقد كان أنجب تلاميذ أبي حنيفة مع زميله أبي يوسف، ومحمد بن الحسن هذا شيخ الإمام الشافعي، فكان من هِمته أن يبيت ليله على العلم والعبادة، وهاك قصة من أمتع القصص التي تُروى عنه وعن أحد طلابه النُّجباء وهو أسد بن الفرات، تَروي كتب التاريخ أن أسد بن الفرات رحل من القيروان إلى الإمام مالك، فسمع منه الموطأ ثم رحل إلى العراق؛ ليجمع بين الحديث والفقه، فسمِع من أصحاب أبي حنيفة وتفقَّه عليهم كأمثال أبي يوسف، وكان أكثَر اختلافه إلى محمد بن الحسن الشيباني، ولما حضَرَ عنده قال له: إني غريب قليل النفقة، والسماع منك نَزْر، والطلبة عندك كثير فما حِيلتي؟
فقال له محمد بن الحسن: اسمع العراقِيين بالنهار، وقد جعلت لك الليلَ وحدَك، فتَبِيت عندي وأسمعك، قال أسد: وكنت أبيت عنده وينَزل إليَّ، ويجعل بين يديه قَدَحًا فيه الماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل ونعَست، ملأ يَده ونفحَ وجهي بالماء فأَنتبه، فكان ذلك دأبه ودأبي، حتى أتيت على ما أريد من السماع عليه...
لقد كان دوره بالليل مع محمد بن الحسن، فإذا أظلم الليل بدأ دوامه، فجمع كل علم الأحناف، فعاد إلى القيروان عالِمًا بالحديث والفقه، وبعد فترة من الزمن يصبح هذا الطالب الذي كان يسامر محمد بن الحسن قاضي القيروان وكبير علمائها، وقد شيَّعه ذات مرة جمع عظيم من أهل العلم ووجوه الناس وعامتهم، ولما رأى الأسد هذا الإكرام واجتماع الناس حوله، قام فيهم خطيبًا، فحمد الله وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والله يا معشر الناس، ما ولي لي أب ولا جد ولاية قط، وما رأيت ما ترون إلا بالأقلام - يعني بتحصيل العلم وتدوينه والاشتغال به - فأجهِدوا أنفسكم وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، وثابِروا عليه واصبِروا على شدَّته، فإنكم تنالون به خيري الدنيا والآخرة.
إن أغلى الدرجات وأعلاها تحتاج منك مهرًا بأن تؤثر العلم على كل لذة، وأن تقدِّمه على كل مرغوب، وأن تَهجر لأجله نومك وتَسهَر ليلك، وأن تجد الراحة كل الراحة في مطالعة كتاب والبحث عن مسألة، وتحرير فصل والنظر في قضية، حتى لو كلفك ذلك أغلب ليلك، وفي هذا قيل لبعض العلماء:
بم أدركت العلم؟ ، قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح، وقيل لآخر، فقال: بالسفر، والسهر، والبكور في السحر.
وهكذا كان دأب العلماء الكبار لا ينامون من الليل إلا قليلًا، لانشغال فكرهم بمسائل العلم والتدقيق فيها، ولن يكون لك حظٌّ من المراتب العالية في منازل العلماء، إلا بمواصلة الليل بالنهار وإنعاش الأسحار، وأن تقوم مِن نومك لمراجعة مسألة أو النظر فيها، أو كتابة فائدة، وما أعجب ما روي عن فاطمة بنت الشافعي لقد قالت: أسرجت لأبي في ليلة سبعين مرة ...
وقد عُرف عن الإمام البخاري الجد في تحصيل العلم، وقد روى كتاب السير في ترجمته أنه كانَ يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطرة، ثم يطفئ سراجه ثم يقوم مرة أخرى، حتى كان يتعدد منه ذلك قريبًا من عشرين مرة، والإمام النووي حكى عن نفسه أنه قال: وبقيت سنتين لا أضع جنبي على الأرض، فكان نومه غفوات، ومع عمره القصير الذي ما جاوز الرابعة والأربعين، كان أعلم أهل الأرض في زمنه، وأحد النوابغ في تاريخ المسلمين..
لقد أصبح قطاربة الليل عباقرة الدنيا، وكأن لسان حالهم ينشد مع الشاعر قوله:
ومما يشوقك إلى قراءة أخبار هؤلاء القطاربة ما جاء في إنباء الرواة في ترجمة أبي نصر القرطبي قال: كنا نختلف إلى أبي علي القالي رحمه الله وقت إملائه النوادر في جامع الزهراء بقرطبة ونحن في فصل الربيع، قال: فبينما أنا ذات يوم في بعض الطريق؛ إذ أخذتني سحابة، فما وصلت إلى مجلس أبي علي إلا وقد ابتلت ثيابي كلها، وحوالي أبي علي أعلام أهل قرطبة، فلما رآني مبتلًّا بالماء أمرني بالدنو منه، وقال لي: مهلًا يا أبا نصر، لا تأسف، ولا تأسَ، ولا تحزن على ما عرَض لك، فهذا شيء يضمحل عنك بسرعة، بثياب تبدلها بغير ثيابك، لكن اسمع - يريد أن يعزيه وأن يسليه على ما أصابه - قد عرض لي -يقول أبو علي عن نفسه- ما أبقى في جسمي ندوبًا وجروحًا تدخل معي القبر، لقد كنت أختلف في الطلب - يعني في طلب العلم إلى ابن مجاهد رحمة الله عليه - فذهبت إليه آخر الليل قبل طلوع الفجر؛ لأقترب منه لأستفيد، فلما انتهيت إلى الطريق الذي كنت أخرج منه إلى مجلسه ألفيته مغلقًا، قال: وعسر عليَّ فتحه، فقلت: سبحان الله، أبكر هذا البكور، ثم أغلب على القرب منه، والله لا يكون ذلك، فنظرت إلى سَرَبٍ بجانب الدار ضيِّق فاقتحمته، فلما توسطته ضاق بي ذلك السرب وذلك النفق، فلم أقدر على الخروج منه، ولم أستطع النهوض، قال: فاقتحمته بشدة حتى خرجت بعد أن تخرَّقت ثيابي، وأثَّر السرب في لحمي حتى انكشف العظم، ومَن الله عليَّ بالخروج، فوافيت مجلس الشيخ على حالتي هذه، فأين أنت مما عرض لي؟ ثم أنشد يقول:
دببت للمجدِ والساعينَ قدْ بَلَغوا جهدَ النفوسِ وألقَوا دونَه الأزرَا وكابَدوا المَجدَ حتى مل أكثرهم وعانَقَ المجدَ مَنْ أوْفَى ومَنْ صبرَا لا تحسب المَجدَ تَمرًا أنتَ آكله لن تبلغَ المجدَ حتى تَلعقَ الصبرَا
قال أبو نصر: فسلاني ما حكاه، وهان عندي ما عرض لي من بلل للثياب بجانب ما أصابه، فلازمته حتى مات..
وهذا عالم من علماء الأندلس عبدالملك الأندلسي: أحيى الليل كله، والكتب حوله، وهو عاكف ومُكِبٌّ عليها، والشمعة بين يديه تشتعل فلم يشعر بشيء حتى أصبح ودخل عليه تلميذه يوسف بن يحيى عند الغَلَس، فرآه كذلك، قد أحاطت به الكتب، فسأله: أوقد انسلخ الليل؟ فقال: نعم، فقام وصلى الصبح، ثم قال: يا يوسف، ما صليت هذه الصلاة إلا بوضوء العشاء الآخرة.
كانوا يسامرون الكتب ولا يَمنعهم من ذلك ضآلة النور الخافت، فأين حالنا من حالهم؟ ونحن مع الأضواء الوهاجة والمصابيح المنيرة والكهرباء اللماعة؟
إنه لا ينبغي لك أن يضيع زمانك وتتصرم ليالي عمرك على القيل والقال، ووسائل التواصل التي تعتبر محرقة للعمر وهدرًا للزمن، والعاقل الأريب هو من يحاسب نفسه في نهاره على ساعات ليله، ويحاسب نفسه في ليله على ساعات نهاره، ودقائقك اليوم ستتمنى غدًا أن لو تعود، لكن هيهات فالعمر إذا مضى لن يعود..
وعندما نتكلم عن قطاربة الليل، لا أقصد أن تتعمد سهر الليالي وتُجهد نفسك دون تخطيط أو تنظيم، لكن المقصود أن تقتنص من زمانك ساعات تخلو فيها بنفسك عن الناس، وما أجملها إن كانت ليلًا أو سحرًا؛ حيث الكون هادئًا من الضجيج وأنت تسامر كُتبك، واعلم يقينًا أن هذه الساعات ستعود عليك بالنفع الكبير في حياتك، لا تغفل عن النوم مبكرًا لتقوم مبكرًا، فالعمر يمضي، وساعات دهرك تنصرم، فلا تضيع حياتك بالغفلة، وما قيمة أن يكون نهارك حائمًا وليلك نائمًا.
وقد قيل:
وبادرِ الليلَ بما تَشتهي فإنما الليل نهار الأريب
ومن يغتنم ساعتين في السحر لإتقان تخصُّصه، سيصبح آية فيه بعد أربع أو خمس سنوات على حسب هِمَّته وعزيمته، وقد رأيت هذا في كثير ممن أعرف، فلا تغفلنَّ عن ساعاتك الغالية واعتبر ساعات الليل - وبالأخص ساعات السحر - زادًا لانطلاقك نحو المعالي، وكن عاشقًا مستهامًا بساعات الهدوء والصفاء الذهني التي تختصر لك المسافات إلى قمة المجد، وكن كما قال الشاعر:
يهوى الدياجي إذا المغرور أغفلَها كأن شهب الدياجي أعين نجْل
إن عثمان بن جني أحد أئمة الأدب والنحو العالم المشهور والنحرير اللوذعي الذي يُعد من أذكى أذكياء علماء اللغة، كان أبوه مملوكًا روميًّا، وكان أعور العين فقيرًا لا يملِك ثمن الزيت ليوقد المصباح في الليل ليطالع درسه، فكان إذا أراد أن يقرأ أو يكتب دخل الحمامات العامة، فنظَّفها وقرأ على السُّرُج الموقدة هناك، وله كتب كثيرة، وقد أدهش فهمُه صديقَه العبقري الشاعر المتنبي الذي كان يقول: ابن جني أعرف بشعرى مني....
يبيت يقرأ في الحمامات العامة؛ لأن فيها مصابيحَ، فيصبح نابغة الدنيا، فما عذرنا نحن والكهرباء في بيوتنا كالهواء نضغط عليها بزر دون عناء، ثم نطفأها متى نريد، كيف كانوا وأين نحن منهم، ثم نزعم أنا سالكون دربهم نبغي اللحاق بهم.
ما الذي حقَّقه ابن جني الساهر على مصابيح الحمامات، فقط لكم أن تعرفوا عن كتاب واحد من كتبه وهو (الخصائص) الذي حبَّره وسطَّره وحرَّره وهو مطبوع الآن، ويقع في ثلاثة أجزاء لم يؤلف أحد على منواله في الدنيا، فقد جاء فيه بالبدائع المدهشة، واللطائف المنعشة في نظريات اللغة، وألَّف كتبًا أخرى لم يسبقه إلى مثالها أحد وتلك كانت بدايته مع ضوء مصابيح الحمامات..
ألا يحرِّك فيك هذا الإمام نخوة حب العلم؟
ألا يشعل فيك جذوة الهمة نحو جرد الكتب وقراءة المطولات وهضم المتون، وتلخيص الشروح حتى يفتح الله عليك كما فتح عليه؟
أما الألوسي _ مفتي بغداد في زمنه _ فقد ألَّف تفسيره بالليل، وكان له في النهار ثلاثة عشر درسًا، وكان هذا الإمام حريصًا على أن يزيد علمه في كل لحظة، لا يَفتُر عن اكتساب الفوائد، واقتناص الشوارد، فكان نهاره للإفتاء والتدريس، وأول ليله لمنادمة مستفيدًا أو جليسًا، ويكتب بأواخر الليل ورقات - من تفسيره - فيعطيها صباح اليوم التالي للكتاب الذين وظفهم في داره، فلا يكملونها تبييضًا إلا في عشر ساعات.
لقد كان يَنْكَبُّ على أوراقه، فيكتب ويقضي ليله على تفسيره الذي أصبح أحد أعاجيب الدنيا، وكأن حاله:
إنك لتتحسَّر على مصابنا في شبابنا وهم يبيتون الليالي الطويلة على المواقع وعلى الشاشات، ومنهمكون على وسائل التواصل الاجتماعي من دون تعبٍ ولا سأم ولا كلل، ولا يشعرون بالنصب، ولا يتسرب إليهم المللُ.
فيا طالب العلم، استغلَّ ليالي الحياة، بل اغتنم كل لحظة من لحظاتك دهرك، وكل نفس من أنفاس عمرك! وخذ من شبابك لهرمك، ومن صحتك لسقَمك، ومن حياتك لموتك، ما الذي يصدك في وجود البطانية الدافئة والأنوار اللامعة أن تبيت مع الكتب قارئًا متلذذًا مستمتعًا؟
أنسيت أن أول عبارة وأول حكمة حفظتها من المدرسة: من طلب العلا سهر الليالي؟
من المؤسف أن ينتشر بين طلبة العلم اليوم تضييع الأوقات وحب الراحة، وإزجاء الأوقات بكل تافه ورخيص، ومتابعة التافهين على وسائل التواصل الاجتماعي، فلم يبقَ لديهم وقت للدرس والتحصيل، وقد تمنَّى بعض علماء عصرنا الذين عاشوا زمنين زمن السرج وزمن الكهرباء هذه النعمة الجليلة، ومنهم الشيخ الشنقيطي صاحب الأضواء يقول عن زمن الطلب: والله لقد كنت أوقد الفتيلَ لأبحث عن مسألةٍ من مسائل الفِقْه، فيخنقني الدخان فأُطفئه، ثم أُوقده، ثم أطفئه، ولا أنتهي من المسألة إلا قرابة منتصف الليل، وأنتم في الكهرباء والنعمة.
يخنقه الدخان فيطفأ السراج، ثم إذا ذهب الدخان يعيد إيقاده لا يريد أن تفوته المسألة، ثم يعاتبنا على نعمة الكهرباء، فكيف لو كانت الكهرباء في زمنه الأول ما صنيعه حينها؟
والقارئ في سيرة هذا العَلَم يقول:
أي همة سمت به إلى هذا المقام؟
لقد وصل إلى درجة أن سماه الشيخ الألباني شيخ الإسلام، وقال: إن كان من أحد يستحق هذا اللقب في زماننا هذا، فهو صاحب الأضواء..
ويقول أيضا يحكي معاناته: كانت أذني تؤلمني حتى أجد من الجهد والألم ما الله به عليم، فأضع الفتيلة في أذني لِكيه من أجل أن يسكن الألم، وكتابي في حجري لا أتحول عنه.
عجيب هذا الصنيع!!
لقد كان الشيخ الشنقيطي (رحمه الله) يتمتع بهمةٍ عاليةٍ في طلبِ العلمِ، فَلَمْ يكن يفَوت مسألةً مما دَرَسَ دونَ استيعابٍ وتمحيصٍ لها من كل جوانبها، وإن كَلفَه ذلك جهودًا مضنيةً وسهرًا طويلًا، وإليك هذه الواقعةَ التي تُنادِي بما ذكرت، يقول الشيخ (رحمه الله) وهو يتحدث عن ذكرياته أيام الطلب: «جِئْت للشيخِ في قراءتِي عليه، فَشَرَحَ لي كما كان يشرح، ولكنه لم يَشْفِ ما في نفسي على ما تَعَودْت، ولم يَرْوِ لي ظَمَئِي، وقمت من عنده وأنا أَجِدنِي في حاجةٍ إلى إزالةِ بعضِ اللبسِ، وإيضاحِ بعضِ المشْكِلِ، وكان الوقت ظهْرًا، فأخذت الكتبَ والمراجعَ، فَطَالَعْت حتى العصرِ، فلم أَفْرَغْ من حاجتِي، فعاودت حتى المغربِ، فلم أَنْتَهِ أيضًا، فَأَوْقَدَ لِي خَادِمي أعوادًا من الحطبِ أقرأ على ضَوْئِهَا، كعادةِ الطلابِ، وواصلت المطالعةَ، وأتناول الشاي الأخضرَ كلمَا مَلِلْت أو كَسِلْت، والخادم بجواري يوقد الضوءَ، حتى انبثقَ الفجر وأنا في مجلسي لم أَقمْ إلا لصلاةِ فرضٍ أو تناولِ طعامٍ، وإلى أن ارتفعَ النهار وقد فَرَغْت من درسي وزالَ عني لَبْسِي، ووجدت هذا المحل من الدرسِ كغيره في الوضوحِ والفَهْمِ»؛ اهـ.
هكذا كان يصنع حينما يعرض له إشكالٌ!! جهدٌ مع سهرٍ في تَتَبعِ كلامِ الشراحِ للكتابِ الذي يشتغل بدراستِه طَلَبًا لاستيفاءِ كل ما قِيلَ في المسألةِ أو البابِ ولذا أثر عنه أنه قال: «لاَ توجد آيةٌ في القرآنِ إلا دَرَسْتهَا عَلَى حِدَةٍ»؛ اهـ.
وقال: «كل آيَةٍ قال فيها الأَقْدَمونَ شيئًا فهو عِنْدِي»!
ولما قال له أحد الأشخاصِ: «إن سليمانَ الجَمَل - صاحبَ حاشيةِ الجَمَلِ على الجَلاَلَيْنِ - لم يَقلْ هَذَا»، قال: «أَحْلِف لكَ باللهِ أني أعلم بكتابِ اللهِ من سليمانَ الجملِ بكذا؛ لأني أخذت المصحفَ من أَولِهِ إلى آخِره، ولم تَبْقَ آيةٌ إلا تَتَبعْت أقوالَ العلماءِ فيها، وعرفت ما قالوا».
وكان (رحمه الله) يحفظ من أشعارِ العربِ وشواهدِ العربيةِ الآلافَ المؤلفةَ من الأبياتِ، كما كان يحفظ أكثرَ أحاديثِ الصحيحين، وألفيةَ ابنِ مالكٍ، وَمَرَاقِي السعودِ، وألفيةَ العراقي، وغيرَ ذلك من المنظوماتِ في السيرةِ النبويةِ، والغزواتِ، والأنسابِ، ومتون الفقه، ولما شغلوه بالزواج وهو في بداية سن الطلب بفتاة حسناء فارعة الجمال قال قصيدة منها قوله:
فقلت لهم: دعوني إن قلبي من الغي الصراح اليوم صاحِ ولي شغلٌ بأبكار عذارى كأن وجوهها غرر الصباحِ أبيت مفكرًا فيها فتضحى لفهمِ الفدم خافضة الجناحِ
يعني أنه يبيت ليله على مسائل العلم المتشابكة المتشابهة ذات المسالك الوعرة، فلا يأتي الصباح إلا وقد خفضت جناحها له..
لقد بات أبو موسى الأشعري يدارس عمر رضي الله عنهما الفقه إلى وقت متأخر من الليل، فقد ثبت عن أبي بكر بن أبي موسى أن أبا موسى رضي الله عنه أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد العشاء، قال: فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما جاء بك؟ قال: جئت أتحدث إليك، قال: هذه الساعةَ؟ قال: إنه فِقه، فجلَس عمر، فتحدثا ليلًا طويلًا، حسبته قال: ثم إن أبا موسى، قال: الصلاةَ يا أمير المؤمنين، قال: إنا في صلاة[1].
إن مدارسة العلم خير من قيام الليل؛ كما ثبت ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما فقد قال: تَدارس العلم ساعةً من الليل خيرٌ من إحيائها[2].
وليس معنى هذا أن تصرف وقتك كله للعلم، بل لا بد للعلم من نور وزكاء وبهاء..
وليس معنى أن تسهر على كتب العلماء أن تقلب الليل نهارًا والنهار ليلًا، لقد كان الدكتور العلامة الراحل شيخنا عبدالواحد الخميسي أعلم أهل اليمن بلغة العرب، يسهر على ضوء السراج إلى الساعة الثانية ليلًا كما أخبرني أحد سُمَّاره، وهو مع الناس في صلاة الفجر، وهو في الساعة التاسعة في ورشته فقد كانت مصدر دخله الوحيد وهو القائم على إخوته الأيتام، ثم شاء الله له أن يلتحق بالجامعة وأن يكون فيها معيدًا، ويتحلق حوله الآلاف من طلبة العلم قبل أن يغادر هذه الدنيا، ويصنع فيها أجمل الذكر..
لا بد من تجريد العزم لاقتناص الفرصة، فمن الخِذلان أن يبيت طالب العلم يتابع الأخبار وينصرف عن متعة العلم ولذته، ولذا تفوَّق أسلافنا وقادوا الأمم، وكانوا مرجعيات في كل الفنون عندما واصلوا ليلهم بنهارهم، وجَدُّوا واجتهدوا في التحصيل، وفي الأخذ بالأسباب الكونية، وعندما نمنا تخلفنا عن الركب رغم سهولة أسباب الدراسة والتحصيل، ورغم أن ديننا كانت أول كلماته اقرأ، لقد تذاكر وكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل ليلة حديثًا حتى أصبحا، وهكذا هم عشاق العلم لا يشعرون أثناء مناقشته بمرور الوقت؛ لأنه يسيطر على مشاعرهم ويسلب النوم من عيونهم والتعب من أجسادهم..
لا أظن أن الشيخ علي الطنطاوي ترجم في كتابه رجال من التاريخ لرجل عاصره كما ترجم لشيخه العلامة المحدث بدر الدين الحسني الذي توفي عن عمر 87 عامًا، فقد ذكر أنه لبث ثمانين سنة ما مس جنبُه الأرض، وما اضطجع إلا في مرض الموت، ما مرض قبل ذلك قط، وما نام كما ينام الناس، بل كان يجلس في الليل ليقرأ، فإذا غلبه النعاس اتكَأ برأسه على وسائد أُعدت له، فأغْفى ساعتين أو ثلاثًا من الليل متقطعات، ومن النهار ساعة، وكان مرجع أهل دمشق في اللغة وغريبها، وفي الصرف وفي النحو، وفي فقه المذاهب الأربعة المدونة، والمذاهب التي لم تدوَّن، مذاهب الصحابة والتابعين، والأئمة من أمثال الأوزاعي والليث والظاهري والطبري، وفي البلاغة، وفي الحديث رواية ودراية، وفي معرفة الرجال والأسانيد، وفي الكلام والفلسفة والأخبار، وكان درسه في الأموي أعجوبة، من رآها ووعاها فقد رأى إحدى عجائب الزمان، وذكر أنه كان يأخذ حديثًا كيفما جاء، فيذكر طرقه كلها، ويعرف بالرواة جميعهم، ثم يشرحه لغة ونحوًا وبلاغة، شرحَ إمامٍ من الأئمة الأولين، فكل كلمة بشاهدها، وكل شاهد بتفسيره، ثم يذكر تعليقات المحدثين بأسانيدها ومصادرها، ثم يذكر ما أخذ منه الفقهاء، وما اختلفوا فيه، وأدلةَ كل منهم، ثم يوازن بينها ويرجح راجحها، من انتهاء صلاة الظهر إلى أذان العصر، ما يقف ولا يتلعثم ولا يعيد كلمة، ولا يقطع جملة كأنما يقرأ من كتاب مفتوح، وكان علمه عجيبًا، وكانت سيرته أعجبَ من علمه، عاش أكثر من ثمانين سنة، وما عاش في الحقيقة إلا يومًا واحدًا أعيد ثلاثين ألف مرة، وكان مقبلًا على المطالعة، ما ترك النظر في الكتب ساعة من نهار عمره كله، وما ترك الإقراء قط.
ولقد كان موعد درس من دروسه قبل وفاته بساعتين، فلما رأى الطلبة ما به هَمُّوا بالرجوع، فأشار لهم أن يقرؤوا وهو يستمع..
واصل ليله بنهاره وجعل حياته وقفًا على العلم، واقرؤوا إن شئتم عنه واعرِفوا بعض أسرار حياته، تجدوا فيها العجب..
أعود بكم إلى قطرب الذي بدأت به لأختم به، لقد ظل أعظم وأجمل كتبه (معاني القرآن وتفسير مشكل إعرابه) مفقودًا قرونًا طويلةً، لا نسمع به إلا في المصنفات القديمة إلى أن وقعت نسخة مخطوطة فريدة في يد العالم الباحث الجزائري الدكتور (محمد لقريز)، فحقَّق الكتاب وأخرجه إلى النور في ثلاثة مجلدات سمان، وكتابه هذا يعد أول كتاب في توجيه القراءات القرآنية وصل إلينا، وقد توسع قطرب في التوجيه والإطالة ببيان علل القراءة من جميع جوانبها اللغوية والدلالية، حتى إن الفارسي (ت 377هـ) اعتمد عليه في كتابه (الحجة)، وكذا ابن جني (ت392هـ) في (المحتسب)، ومكي القيسي (ت 428هـ) في (الكشف)، وغيرهم، وهذا الكتاب زاخر بالترجيحات التفسيرية، ومن المعلوم أن قطرب كان مصدرًا من مصادر التفسير لدى طائفة من كبار المفسرين كالطبري والماوردي والبغوي وابن عطية وغيرهم، وفي كتابه هذا أصول النحو البصري، فهو أنجب أصحاب سيبويه، وفيه نقد لغوي، وفيه إشارات تفسيريه ودلالية ونحوية وصرفية، وفيه عشرات النقولات عن يونس بن حبيب شيخ سيبويه وصاحب الأثر الكبير في تشكيل المذهب البصري في النحو، واشتمل على نحو ألف وخمسمائة شاهد شعري..
الآن وبعد أكثر من ألف ومائتي عام ظهرت موسوعته الجميلة وكأنه كان مخلصًا في إدلاجه تلك الليالي إلى شيخه سيبويه وتتلمذه عليه أوقات السحر، وما كان الله ليضيع أجر المخلصين..
فيا أيها المدلج أمعِن في إدلاجك، وسيأتي اليوم الذي يبارك الله في عملك فينفح طيبًا زاكيًا في العالمين..
أما مَن هو في النهار جَلَبَة وفي الليلِ خشبة، فلعمرُ الله لن يرتقي مقامًا ولن يقطع طريقا أبدًا..
طلب العلم يحتاج إلى مواصلة المسير وعدم التوقف والاستسلام للأراجيف، ويجب قضاء أعز الأوقات في طلبهِ، ولن يعطيك العلم بعضه حتى تعطيه كلك، وقد سمعت أحد المقربين من القاضي العمراني ذات مرة يتحدث عن أيام شبابه، وأنه كان لا ينام إلا أربع ساعات بسبب انهماكه على دروسه ومواصلة ليلهِ بنهارِه في التحضير للدروس اليومية، وهل يظن القارئ أنه وصل لمرتبة مفتي الديار دون جهد وتعب وسهرٍ وعناء..؟
لا أنسى في مرحلة الدراسة الجامعية ذلك الشيخ الذي كان يطوف بمساكن الطلاب ينادي: يا نايم وحد الدايم قبل الفجر بساعة ونصف، فيثور الطلاب عند سماع صوته إلى التهجد والترتيل وتحضير الدروس، وحفظ ألفية ابن مالك، والجمع بين الصحيحين والتبتل في الوتر، وكأني به ينشد:
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.