خاتم النبيين (11) مواقف في طريق الهجرة

الكاتب: المدير -
خاتم النبيين (11) مواقف في طريق الهجرة
"الحلقة الحادية عشرة من برنامج (خاتم النبيين) مواقف في طريق الهجرة   بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير النبيين، وعلى آله وصَحْبه والتابعين، وبعد: فقد ذكرنا - مُستمعِيَّ الأكارم - في الحلقة الماضية بدايةَ الهجرة إلى المدينة، فذكرنا أسبابها، وكيف كانت هجرتهم رضي الله عنهم، وذكرنا أيضًا موقف قريش من ذلك الحَدَث العظيم المبارك، وأيضًا ذكرنا كيف بدأت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأيضًا ذكرنا خروجهما إلى الغار، وكيف حفظ الله نبيَّه عليه الصلاة والسلام وأولياءه.   ونزدلف الآن إلى ذكر مواقف في طريق الهجرة، فإن الروايات الصحيحة تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكرٍ استأجرا رجلًا، وهو عبدالله بن أريقط، وهو على دين قريش، وكان هاديًا خِرِّيتًا، فَأْتَمناه ودفعا إليه راحِلتَيْهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ، فالطريق مخوف، وقريش تبحث عنهما، وقد وصلت تلك الأمانة، وهما الراحلتان في الوقت المحدد، فارتحل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم راحلتَه، وارتحل أبو بكر راحلتَه وأردف معه عامر بن فهيرة ليخدمهما، ومعهما عبدالله بن أريقط الدليل لهما، فانطلق هؤلاء الأربعة فقط بحفظ الله ورعايته إلى المدينة من الغار، وذلك ليلة الاثنين حيث مكثا في الغار ثلاث ليالٍ، وكان ابن أريقط دليلًا خِرِّيتًا - أي متميِّزًا - في معرفة الطرق، فسلَكَ بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل، ثم على عسفان، وسلَكَ طريقًا بعيدًا عن أعيُن قريش حتى نزل بهما في قباء قرب المدينة.   ومن مواقف تلك الهجرة ذلك الأمر الغريب الذي حصل مع سُراقة بن مالك كما عند البخاري، فيقول سراقة: كنا جلوسًا فجاء رجل، وقال: رأيتُ سوادًا ولا أظنه إلا محمدًا وصاحبه فكذبناه؛ لكني ركبت فرسي وأخذت رمحي، فخرجت إلى ذلك السواد، وهو خرج إلى ذلك ليحوز ويفوز بالمئة ناقة التي وضعتها قريش لمن يأتي بمحمدٍ وصاحبه، يقول: فلما دنوتُ منهم عثَرتْ بي فرسي، ثم قامت فلحقت بهم، ثم عثَرت مرةً أخرى، فقامت وركبتها ولحقتهم حتى دنوت منهم وأنا أسمع قراءة محمد، وهو لا يلتفت وأبو بكر يُكثِر الالتفات، فقال أبو بكر: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنا))، فيقول سراقة: دنوت منهم جدًّا، فلم يكن بيني وبينهم إلا رمحين، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله، لحقنا الطلب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لِمَ تبكي?))، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أما إني والله لا أبكي على نفسي؛ ولكن أبكي عليك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ))، قال سراقة: فساخَتْ يدا فرسي في الأرض فناديتهم بالأمان، فوقفوا فعلمت أن أمر هذا النبي سيظهر فأخبرتهم بأخبار قريش، وعرضتُ عليهم الزاد فأبَوا، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أخْفِ عَنَّا))، فرجع سراقة يقول لقريش: إن تلك الجهة كفيتكم إياها، فابحثوا عنهما في غيرها، فكان في آخر الأمر مُدافعًا عنهما، وهو في أول الأمر يريدهما.   ومن مواقف تلك الهجرة سُقْيا اللبن، فقد أخرج الشيخان: البخاري ومسلم، عن أبي بكر قال: ارتحلنا من مكة فسِرْنا في ليلتنا حتى ظهيرة الغد، فرميت ببصري أبحث عن ظلٍّ نأوي إليه فجئت إلى الظل، ففرشتُ فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قلت: اضطجع يا نبي الله، فاضطجع، فبحثتُ حولي فإذا براعي غَنَمٍ يريد ذلك الظل، فقلت: هل في غنمك من لبن? قال: نعم، فحلب لنا، ثم أتيتُ به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فوافيتُه قد استيقظ من نومه، فقلت: اشرب فشرب حتى رضيت، ثم ارتحلنا والقوم ما زالوا يطلبوننا.   ومن مواقف الهجرة إسلام الراعي، ففي طريقهم للهجرة مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على راعي غنم فاستسقياه لبنًا، فقال الراعي: ما عندي شاة تحلب غير أنها ها هنا عَناق حملت قريبًا، وليس فيها لبن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ادْعُ بها)) فجاء بها الراعي، فمسحَ النبي صلى الله عليه وسلم ضَرْعَها، ودعا فامتلأ ضَرْعُها من الحليب، فحلب النبي صلى الله عليه وسلم، فسقى أبا بكرٍ رضي الله عنه، وسقى الراعي، ثم شرب عليه الصلاة والسلام بعدهما، فقال الراعي: من أنت? فوالله، ما رأيت مِثْلَكَ قَطُّ، قال: ((إنِّي محمدٌ رسولُ الله)) فقال الراعي: أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنهم لَيَقُولونَ ذلكَ))، فقال الراعي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وإني مُتَّبِعُك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنك لا تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتِنا)).   ومن مواقف الهجرة مرورهما بخيمة أم معبد، وهي عاتكة بنت خالد، وقيل: إنها كانت مسلمة، وقيل: أسلمت فيما بعد، ومنزلها كان بقُدَيْد، وقد مَرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وطلبا منها طعامًا بثمنٍ فلم يصيبوا عندها شيئًا، ثم رأوا شاةً هزيلةً واستأذنوا في حلبها، فأذنت واعتذرت بأنها لا تحلب وليس فيها شيء من الحليب؛ لهزالها وضعفها، فمسحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ضَرْعَها ودعا فحلبها وشربوا وسقوا وبقي شيء من الحليب فأبقوه عندها، ثم قدم زوجُها بعد ذلك فأخبرته الخبر ووصفته لزوجها، فقال: هذا والله صاحبُ قريش الذي يُطلب، ولقد هممْتُ أن أصاحبه، ولأفعلنَّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلًا.   ومن مواقف الهجرة أيضًا أنه قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه إلى المدينة لقيا الزبير بن العوام رضي الله عنه في ركب من المسلمين كانوا تُجَّارًا قافلين من الشام، وكان معهم شيء من الثياب، فكسا الزبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بيضًا، ولقيه أيضًا كذلك طلحة بن عبيد الله قادمًا من الشام في عِيرٍ، فكسا كذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه من تلك الثياب، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المسلمين في المدينة قد استبطأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فعَجَّل رسولُ الله عليه الصلاة والسلام السَّيْرَ، ومضى طلحة إلى مكة وقضى حاجته من تجارته، ثم خرج بعد ذلك بآل أبي بكر، وهاجر بهم إلى المدينة.   وكان علي رضي الله عنه قد أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليؤدي الودائع التي كانت عند النبي عليه الصلاة والسلام للناس، حيث عُرِف النبي عليه الصلاة والسلام بالأمانة والصدق، فكانوا يجعلون الأمانات عنده ودائع، فأدَّاها علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلال الأيام الثلاثة، ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة، فأدركه في قُباء على ميلين من المدينة فنزل معه.   ومن مواقف الهجرة هجرةُ صهيب الرومي رضي الله عنه، فلما أراد الهجرة إلى المدينة وكان غنيًّا ثريًّا ردَّه كُفَّار قريش، وقالوا: أتيتنا صعلوكًا فقيرًا فكثُر مالُك عندنا، ثم تريد أن تخرج بهذا المال، والله لا يكون ذلك أبدًا، فقال صهيب لمَّا علِم أنهم سيردُّونه: أرأيتم إن جعلت لكم مالي تخلون سبيلي? قالوا: نعم، قال: أشهدكم أني جعلت مالي لكم، قال صهيب رضي الله عنه: وخرجت حتى قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قُباء، فلما رآني قال: ((يا أبا يحيى، ربِحَ البيعُ، يا أبا يحيى، ربِحَ البيعُ، يا أبا يحيى، ربِحَ البيعُ)) قالها ثلاثًا، فقلتُ: يا رسول الله، ما سبقني إليك أحد، فمَنْ الذي أخبرك؟! إنما أخبرك بها جبريل، وفيه نزل قول الله تبارك وتعالى: ? وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ? [البقرة: 207]، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في قُباء عند بني عمرو بن عوف، فأقام فيهم، قيل: أربع عشرة ليلة، وقال بعضهم: إنما أقام أربعة أيام فقط، وكان أول عمل عَمِله النبي صلى الله عليه وسلم لما قدمَ قُباء هو تأسيس المسجد، وهو مسجد قُباء المعروف الآن، وهو المسجد الذي أُسِّس على التقوى، كما أخرجه البخاري، ومسجد قُباء هو أول مسجد بُني بعد الهجرة للناس عامة، وهو أول مسجد صلى فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه جماعةً بهذا الظهور والوضوح، وقد اختُلِف في المسجد الذي أُسِّس على التقوى؛ فالجمهور قالوا: إنه هو قُباء، وقال آخرون: هو المسجد النبوي، ومما يؤكد أنه قُباء قوله تعالى: ? فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ? [التوبة: 108] حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّها نَزَلَتْ في أهْلِ قُباء))، والحق أن كلًّا منهما أُسِّس على التقوى، وفي فضيلة مسجد قُباء يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن تطهَّر في بيته ثم أتى مسجد قُباء فصلَّى فيه صلاةً كان كأجْرِ عُمْرة))؛ صحَّحه الألباني، وحسَّنه آخرون، وقد ثبَتَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى قُباء يوم السبت راكبًا وماشيًا.   ومن مواقف الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ في طريقه برجلينِ من أسْلَم يقال لهما: المهانان، وهما قد اشتهرا بالسرقة والنهب والسلب، فقصدهما النبي صلى الله عليه وسلم وتحدَّث معهما، وعرض عليهما الإسلام فأسلما، وأمرهما أن يقدما عليه في المدينة، فهذه بعض المواقف في طريق الهجرة لعلَّها تكون نِبْراسًا لنا نستلهم منها الدروس والعِبر، ونستكمل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، ونذكر الآن بعض الدروس والعِبَر، فمن هذه الدروس: الدرس الأول: حفظ الله تعالى لنبيِّه عليه الصلاة والسلام وأوليائه، ونصره لهم وتسديده لأمورهم، ومأخذ هذا أن الدليل الذي يسير خلفَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه هو كافر على دين قريش، وهو عبدالله بن أريقط، وهو يعلم أن قريشًا قد وضعت مئة ناقة لمن يأتي بمحمدٍ وصاحبه، فيمكن لهذا الدليل أن يخونهما كما هي عادة بعض كفار قريش، ويحوز المئة ناقة؛ ولكن الله عز وجل حفظ نبيَّه من ذلك، فكان هذا الدليل على دين قريش؛ لكنه كان ذا أمانةٍ وصِدْقٍ، وسلَكَ بهما طريقًا لا تعرفه قريش؛ بل وتغفل عنه، فسبحان مَن سخَّر هذا لهذا مع اختلاف الدين والمِلَّة! وهذا شاهدٌ كبيرٌ، وغيره كثير من شواهد حفظ الله تعالى لأوليائه وتسديدهم ونصرهم، وأما ما يُصيبهم فهو تكفير وتمحيص.   الدرس الثاني: عندما جاء سراقة يطلب النبي صلى الله وسلم وأبا بكر ليسلمهما إلى قريش بكى أبو بكر، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك البكاء، فقال: إني أبكي عليك يا رسول الله، وليس على نفسي؛ وذلك شفقة على النبي صلى الله عليه وسلم وسُنَّته وشريعته، فهل نحن عندما نرى المُحرَّمات تُنتهَك والسُّنَّة تُحارَب، هل ندافع عنها بما نستطيع، ناهيك عن البكاء في ذلك، فمن الناس - مشكورًا مأجورًا - مَن يفعل ذلك الدفاع، وربما بكى؛ لكن البعض الآخر - هداهم الله - كأن الأمر لا يعنيهم، وربما استدلوا بقوله تعالى: ? عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ? [المائدة: 105]، وهذا الاستدلال في غير محله إذ لو اكتملت تلك الهداية لأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فعدم أمره ونهيه دليلٌ على أن الهداية لم تكتمل؛ ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: ""إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها""، فعلينا جميعًا أن نكون سياجًا منيعًا لسُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم وشريعته.   الدرس الثالث: عندما جاء سُراقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه ليُسلَّمهما إلى قريش اتَّجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه بدعائه، فقال: ((اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ))، وهذا يُعطينا درسًا عظيمًا وجليلًا؛ وهو أنه إذا حصلت لنا مشكلة في أي مجال من مجالات الحياة، فلنجعل الدعاء أحد الحلول لهذه المشكلة، فنجد البعض من الناس - هداهم الله سبيل الرشاد - يبحث عن حلول عديدة لمشاكله؛ لكنه يتخلَّى عن الدعاء، وربما كان الدعاء هو الحل الأمثل لهذه المشكلة، وكم من مشكلة كان الدعاء والإلحاح هو بإذن الله تعالى المزيل لها، والمصلح للحال، ففي كل نوائبك صغيرها وكبيرها لا تنسَ الدعاء، وهو لا يحتاج إلى بحث ولا إلى مال ولا إلى مِنَّة مخلوق ولا شفاعة أحد؛ بل هو كلمات ودعوات تبدؤها بالحمد لله تعالى، وتتوسَّل بالاسم الأعظم ثم ترفعها إلى مولاك، وهو بعد ذلك يتولَّاك، وكلما كثُر الإلحاح قرُبت الإجابة، ولو لم تحصل إجابة، فأنت رابح على كل حال، فلك بدعائك إحدى ثلاث: أن تُعطى ما سألت، أو يُصرف عنك من السوء مثلها، أو تُدَّخَر لك حسنات في موازينك يوم القيامة، فدعاؤك لن يذهب سُدًى، ومن هنا نعرف خطأ مَن يقول من الجهلة: إنني أدعو وأدعو ولم يُستجَب لي، ولم يعلم ذلك المسكين أنه صرف عنه أهوالًا لم يشعُر بها أو ادُّخِرت له حسنات لم يعلم بها، وذلك بسبب دعائه.   الدرس الرابع: من حفظ الله تعالى لنبيِّه عليه الصلاة والسلام وصاحبه أن سراقة بن مالك جاء إليهما في أول الأمر يطلبهما؛ ليُسلِّمهما إلى قريش، وفي نهاية الأمر صار يُدافع عنهما، فيقول لقريش: لا تبحثوا في تلك الجهة فقد كفيتكم إياها؛ وذلك لمَّا رأى من عجائب الأمور التي حصلت له ولفرسه؛ حيث توقفَتْ فرسُه، وساخت في الأرض أرجُلُها، وتكرَّر ذلك مرارًا، وسَمِع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع مُدافِعًا عنهما، وهو في أول الأمر يطلبهما، ففي هذا حفظ لهما ودلائل على نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم.   الدرس الخامس: ينبغي للأصحاب إذا سافروا أن يُبادروا لخدمة بعضهم بعضًا، فهذا من مكارم الأخلاق وصفاء النفوس، فإن أبا بكر رضي الله عنه مع ما به من التعب والسهر، كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم في مأكله ومشربه ومضجعه بخلاف الأصحاب الذين يتكاسلون عن هذا الخُلُق النبيل، فتراهم مختلفين، قد يوجد فيهم بعض الشحناء وسُوء الطِّباع وقلة الحياء وكثرة الخلاف وضياع الوقت وعدم اتحاد الرأي، وكل هذه السلبيات وأمثالها تزول إذا تفانى الأصحاب والخِلَّان والزملاء في خدمة بعضهم البعض سواء في سفر أو رحلة أو نحو ذلك، فسيسودهم الاحترام المتبادل والكلام الطيِّب والراحة النفسية والطُّمَأْنينة وقلة الخلاف واتِّحاد الرأي ونحو ذلك من المصالح إذا خدم بعضُهم بعضًا.   الدرس السادس: بيان دلائل النبوَّة ومعجزاتها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك من خلال حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لأُمِّ معبد؛ حيث أتَتْ أُمُّ معبد بشاةٍ هزيلة ليست ذات لبن بل وميؤوس منها، فهي لم تلحق بالرعي لهُزالها وضعفها، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضَرْعها فدرَّت الحليب الكثير حتى شربوا وارتووا، وأبقوا عندها ما يكفي لحاجتها وذويها، وفي هذا معجزةٌ ودليلٌ على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما يقرأ المسلم في هذه الدلائل والمعجزات يَقْوَى إيمانُه ويقينُه، فهي أمور خارقة للعادة، فاقرأوا - رحمكم الله - في تلك المعجزات لتتأملوا نبوَّةَ نبيِّكم ودلائلها فهي عِلْمٌ شريفٌ ومن أسباب الثبات على الحق.   الدرس السابع: حرص الصحابة رضي الله عنهم على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وتفانيهم في ذلك، ومن ذلك كِسوة الزبير وطلحة للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه؛ حيث أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه من سفر، وهما سيقابلان الناس، ومثل هذا الحدث يحتاج إلى أخذ الزينة، فبذل الزبير وطلحة تلك الثياب والألبسة للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فاجتمع للنبي عليه الصلاة والسلام بذلك حُسْنُ المَظْهَرِ وطِيبُ المَخْبَرِ.   الدرس الثامن: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعرَف في مكة بالصادق الأمين حتى وصل الأمر إلى أن المشركين وهم يحاربونه يضعون عنده بعض الودائع؛ لمعرفتهم بصدقه وأمانته؛ حيث لم يجدوا من ذويهم مَنْ يضعون أماناتهم عنده خوفًا من الخيانة؛ ولذلك تأخَّر عليٌّ في الهجرة حتى يُسلِّم الأمانات إلى أهلها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وفي هذا درس عظيم لنا جميعًا؛ أن نتصف بالصدق والأمانة، ففيهما البركة والخير العظيم، وفي ضدهما الضياع والضلال المبين، فماذا لو ساد هذان الخلقان الناس جميعًا ونحن جزءٌ منهم لزالت كثيرٌ من المشاكل سواء على المستوى الشخصي والفردي أو على المستوى الرسمي والهيئات الحكومية، فلنتعاهد جميعًا على هذين الخُلُقينِ العظيمين: الصدق والأمانة، فنحن الرابحون في ذلك، وإذا تركناهما فنحن الخاسرون، وماذا سينفع ذلك الكاذب والخائن إذا أخذ حفنةً من المال، وهي ليست له فهو سيردُّها حسنات يوم القيامة، ووالله ثم والله، لو امتثل المجتمع هذين الخلقين تمامًا لأغلقت بعض جهات المحاكمة والشُّرَط لزوال المسببات والمشاكل.   الدرس التاسع: في هجرة صهيب رضي الله عنه أرغمه كُفَّار قريش أن يترك ماله لأجل الهجرة، فبادر لترك المال مقابل الهجرة، فهو خرج من مكة وليس معه شيء من ماله، وهو غنيٌّ ثريٌّ ابتغاء وجه الله تعالى؛ ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ربِحَ البيعُ أبا يحيى))، فهل سيكون هذا الفعل مُوقِظًا لنا في الصَّدَقة وبذلها والإكثار منها، فإن تلك الصدقة مخلوفة، وهي وإن كانت خرجت منك، فهي مرصودةٌ لك، وهي عبارة عن نقل مالك من حساب الدنيا الفاني الفقير إلى حساب الآخرة الباقي النفيس، وعجبًا لمن يعلم تلك الحقيقة ولا يُكثِر من الصدقة، فيا معاشر الأغنياء والفقراء كُلٌّ يتصدَّق مِن وسعه، فالقليل مهما قَلَّ فهو خير عظيم، فإذا كان شِقُّ التمرة يقي من النار، فما بالكم بما هو أكبر من شِقِّ التمرة؟! فاحتسبوا وابذلوا، واعلموا أن ذلك مخلوف عليكم، وكم هو جميل أن يجعل أهل البيت صندوقًا أو حصالةً في مكان بارز من البيت؛ لتكون مجالًا للصَّدَقة، ولو بالقليل، وإذا كانت في سِرٍّ فصاحبها تحت ظلِّ العرش، ثم يفتح ذلك دوريًّا شهريًّا، ويدفع إلى المحتاجين.   الدرس العاشر: النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته رأى رجلين فدَعاهما إلى الإسلام، وفي هذا درس لنا جميعًا في سفرنا ورحلاتنا أن نساهم بجهودنا في دعوة الآخرين وبيان أخطائهم وتعديل سلوكهم، وأمرهم بالخير ونهيهم عن الشر، فكم سيحصل من الخير العظيم لو كنا جميعًا كذلك في رحلاتنا القريبة والبعيدة، فكونوا - رحمكم الله - كذلك تفلحوا.   أسأل الله تبارك وتعالى أن يوصلنا إلى دار السلام بسلامٍ، وأن يرزقنا قلوبًا وعقولًا راشدة، وألسنة صادقة، وأن يشرح صدورنا، ويُيسِّر أمورنا، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. "
شارك المقالة:
233 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook