المسجد هيئة إسلامية ذات شأن عظيم في تربية المجتمع المسلم تربيةً إيمانية متكاملة، وحين يكون دور هذه الهيئة واضحًا وفاعلاً كما ينبغي، فإن آثار ذلك تظهر جليَّة في استقرار وتنمية هذا المجتمع.
ولو لم يكن ذلك، لما عمد النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم إلى تأسيس وإرساء قواعد المساجد إبَّان وصوله إلى حاضرة دولة الإسلام الوليدة، لقد كانت هذه إشارة بليغة إلى كافة من يريدون أن يلتمسوا أفضل الأماكن، وخير الوسائل في التربية، والتوجيه والإرشاد على الإطلاق في المجتمع المسلم، إنها المساجد، خير الأماكن في أرض الله سبحانه.
وإذا كانت أشرف البقاع في الأرض هي بيوتَ الله تعالى فإن معمري هذه البيوت والقائمين عليها - لا شك - سيكونون من أطيب الناس نفسًا، وأوفرهم حظًّا في الصلة بخالقهم سبحانه وتعالى من ناحية، وفي الصلة بكافة المخلوقات، وخاصة المسلمين منهم، من ناحية أخرى؛ يقول الله تعالى: ? إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ? [التوبة: 18].
وعن عبدالله بن رباح: أن كعبًا قال: إني لأجد في التوراة يقول تبارك وتعالى: إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد، فهو زائر الله، وحق على المزور أن يكرم زائره، ثم قرأت القرآن فوجدت فيه: ? فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ? إلى آخر الآية [النور: 36].
ثم وجدت في التوراة أنه لم تكن محبة لأحد من أهل الأرض، حتى يكون بَدْؤُها من الله، ينزلها الله على أهل السماء، ثم ينزلها على أهل الأرض، ولم يكن بغضٌ لأحد من أهل الأرض، حتى يكون بدؤه من الله، ينزله على أهل السماء، ثم ينزله على أهل الأرض، ثم قرأت القرآن فوجدت فيه: ? إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ? [مريم: 96]؛ (كتاب الزهد لأبي داود، باب إن بيوتي في الأرض المساجد).
واقع المسجد المعاصر:
إن نظرةً إلى واقع مساجدنا اليوم توضح أن الصورة الحالية تختلف - أو تتخلف - عما كان عليه، أو عما ينبغي أن يكون عليه هذا الصرح الإيماني، الذي هو موطن الصلة الأول بين العبد وبين ربه - سبحانه وتعالى.
ولعل الأفضل في هذا المقام أن تسير خطتنا في وصف الحال المأمولة، بناء على المبادئ الراسخة في شريعة الإسلام، التي هي أصلح ما يكون لكل زمان ومكان، وذلك بعيدًا عن تكديس الشكاوى من الحال القائمة؛ ففي الأول ما يغني عن هذا الآخر.
وقد جاءت محاور هذه الكلمة كما يلي:
أ- لماذا المسجد؟
ب- وظيفة المسجد.
ج- متى يرتاد الفتيان المسجد؟
د- استقبال المساجد للنساء.
هـ- سمات مسجد اليوم.
و- الدور الأمثل لمسجد اليوم.
ز- موضوعات مسجدية.
ح- الخاتمة والخلاصة.
وعلى الله تعالى التكلان، ومنه العون والتوفيق.
(أ) لماذا المسجد؟
في عصرنا الحاضر مؤسسات كثيرة تقوم على توجيه المجتمعات والعناية بها، ومن هذه المؤسسات ما يبني أعماله على النظريات التربوية الحديثة، ومنها ما يهمل ذلك ويعتمد فقط على الإداريات التجريبية أو المدروسة، وتأتي نتائج هذه التوجيهات من تلك المؤسسات شاهدة على مدى واقعية هذه النظريات أو إخفاقها.
أما المسجد، فإنه ينأى بعيدًا عن هذه النظريات التجريبية، إنه صرح إيماني يقوم على الأرض؛ ليصبغ نفوس زواره بصبغة الله؛ ? وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ? [البقرة: 137].
فاعتياد زيارته والتردد عليه دليلٌ ظاهر على الإيمان؛ فقد روى أحمد والترمذي وابن ماجه والدارمي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: ? إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ? [التوبة/ 18]))، وفي رواية أخرى: ((يتعاهد)) بدلاً من ((يعتاد)).
وفي تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي يقول المباركفوري: ? إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ ? [التوبة/ 18]؛ أي: بإنشائها، أو ترميمها، أو إحيائها بالعبادة والدروس، قال صاحب الكشاف: عمارتها: كنسها، وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، وصيانتها عما لم تُبْنَ له المساجد من حديث الدنيا، فضلاً عن فضول الحديث. اهـ.
(ب) وظيفة المسجد:
إن المراقب لأحوال المساجد على مدى العصور الإسلامية لَيسهلُ عليه الإقرار بأنها لم تقتصر يومًا على أداء الصلوات فحسب؛ بل لعله قد أصبح من المسلَّمات اليوم أن المسجد في الإسلام هو الجامع لقلوب المسلمين، والمانح لهم الطمأنينة والسكينة، والرحمة والمغفرة من عند الله سبحانه وتعالى.
وفي المسجد تتجلى رموز الوحدة والقوة، حين يجتمع فيه المسلمون خمس مرات في اليوم والليلة على الأقل، وتتأكد فيه روح النظام والحضارة الإسلامية حين يَأْتَمُّون بإمامهم، ويستمعون لخطيبهم، وتحيا فيه معاني الصفح والمودة، والتواصل والتراحم حين يهش المسلم في وجه أخيه ويبش له، ويلقي مع اهتزازات اليدين كلَّ ما له صلة بالضغائن والأحقاد، فتذوب وتنصهر بينهما بحرارة التماس والخشوع والمصافحة.
إنها والله معانٍ مفتقدةٌ، إلا في بيوت الله سبحانه.
والمسجد هو المربي الأصيل لفتيان الأمة وشبابها وشيوخها على السواء، فكل ما فيه وما يتصل به يحفر في النفوس معانيَ الكرامة والإنسانية الصافية، البعيدة عن الكدر والعكر، فصاحب القلب المعلَّق بالمساجد موعود بأن يكون في ظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله، كما أن الشاب الذي نشأ في عبادة الله سبحانه لا يمكن أن تتحقق له هذه الصفة بعيدًا عن ارتياد المساجد، والمشاركة في إعمارها.
ومعلِّم الناس الخيرَ، الذي يصلي عليه الله وملائكتُه، وأهل السموات والأرضين، والنمل في جحورها، والحيتان في البحار[1] - ما تزال صورته في الأذهان صورة المُحاضر الذي يُعلم أبناءه في ساحات المساجد وأركانها.
إن هذه الارتباطاتِ والمعانيَ تجعل من شرائح المجتمع أناسًا ذوي نفوس مطمئنة، ومبادئَ راسخةٍ، وتصرفات حضارية، وقلوب متفتحة، وأرواح شفافة متطلعة إلى المعالي، تستمد من رب هذا الكون قوتها وعونها، ولا تتوانى في التماس كافة الوسائل المشروعة في تطوير أحوال أمتها.
[1] انظر الحديث الذي رواه الترمذي في سننه، باب العلم عن رسول الله، ما جاء في فضل الفقه على العبادة.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.