الفتح الأعظم لمكة المكرمة

الكاتب: المدير -
الفتح الأعظم لمكة المكرمة
"القرآن أعظم دلائل النبوة   إنَّ إعجاز القرآن الكريم - الذي كان العرب أهلُ اللغة يُدرِكونه - هو أعظم دلائل نبوَّته صلَّى الله عليه وسلَّم، ومِن أَشهَر الذين دخَلُوا في الإسلام بسبب إعجابهم بإعجاز القرآن، واقتِناعِهم أنه ليس ممَّا يَستطيع البشر أن يأتوا بمثله: سيدُنا عمرُ بن الخطَّاب، وأُسَيد بن حُضَير، وسعد بن معاذ رضي الله عنهم، وغيرهم كثير، قال الأستاذ العلَّامة الذوَّاقة سيِّد قطب: سُحِرَ العربُ منذ اللحظة الأولى، سواء منهم في ذلك مَن شرَح الله صدره للإسلام، ومَن جعَل على بصَره غِشاوَة.   وإذا تجاوَزنا عن النَّفَر القليل الذين كانت شخصيَّة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وحدَها هي داعيتَهم إلى الإيمان في أوَّل الأمر، كزوجه خديجة، وصديقه أبي بكر، وابن عمِّه علي، ومولاه زيد، وأمثالهم، فإننا نجد القرآن كان العاملَ الحاسم، أو أحدَ العوامل الحاسمة، في إيمان مَن آمنوا أوائلَ أيام الدعوة، يوم لم يكُن لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم حَوْلٌ ولا طَوْلٌ، ويوم لم يكُن للإسلام قوَّة ولا مَنَعَة.   وقصَّة إيمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتولِّي الوليد بن المغيرة نموذجان من قَصَصٍ كثيرة للإيمان والتولِّي، وكلتاهما تكشف عن السِّحْرِ القاهِر الذي يَستوي في الإقرار به المؤمنون والكافرون[1]. وقصة إيمان عمر رضي الله عنه معروفة[2]، وأمَّا قصة تولِّي الوليد فيحسُن أن نُذَكِّر بها.   وموضع الشاهد فيها أنَّ قريشًا أوفدَتْ أبا جهلٍ إليه يطلب منه أن يقول في القرآن قولًا يَعلم منه الناسُ جميعًا أنه كاره له، فأجابه الجوابَ الآتي الذي يدلُّ على تأثُّره بجمال القرآن: ماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلَم منِّي بالشِّعر ولا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجنِّ، والله ما يُشبِه الذي يَقولُه شيئًا مِن هذا، والله إنَّ لقوله لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّه ليَحطِم ما تحتَه، وإنه ليعلو وما يُعلَى عليه. قال أبو جهل: والله لا يَرضَى قومُك حتى تقولَ فيه. قال: فدَعْني أفكِّر فيه، فلمَّا فكَّر قال: إنْ هذا إلا سِحْرٌ يُؤثَر؛ أمَا رأيتموه يُفَرِّق بين الرجل وأهله ومَوالِيه.   وفي ذلك يقول القرآن: ? إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ? [المدثر: 18 - 24] [3].   وقد كتبَ الجاحظُ مقالةً رائعة في هذا الموضوع أرى أن أُورِدَها هنا؛ فإنها مقالة جديرة بالاهتِمام، قال الجاحظ: (بَعث اللهُ محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أكثر ما كانت العربُ شاعرًا وخطيبًا، وأحكَمَ ما كانت لغةً، وأشدَّ ما كانت عدَّةً، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله، وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجَّة، فلمَّا قطع العذر، وأزال الشُّبهة، وصار الذي يمنعهم مِن الإقرار الهوى والحميَّة دون الجهل والحيرة، حمَلَهم على حظِّهم بالسيف، فنَصَبَ لهم الحرب، ونصبوا له، وقتل مِن عِليَتِهم وأعلامهم، وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتجُّ عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحًا ومساءً إلى أن يُعارِضوه إنْ كان كاذبًا بسورة واحدة، أو بآيات يَسِيرة، فكلَّما ازداد تحدِّيًا لهم بها، وتقريعًا لعجزهم عنها، تكشَّف عن نقْصهم ما كان مستورًا، وظهر منه ما كان خفيًّا، فحين لم يجدوا حِيلةً ولا حُجَّة قالوا: أنتَ تعرِف مِن أخبار الأُمَم ما لا نعرِف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتَرَيات، فلم يَرُمْ ذلك خطيبٌ، ولا طمع فيه شاعر... فدلَّ ذلك العاقلَ على عجز القوم مع كثرة كلامِهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شُعرائهم، وكثرة مَن هجاه منهم، وعارَض شُعراء أصحابه وخطباء أمَّته؛ لأن سورة واحدة وآيات يَسيرة كانت أنقضَ لقوله، وأفسَد لأمْره، وأبلَغ في تكذيبه، وأسرَع في تفريق أتباعه مِن بذْل النفوس، والخروج مِن الأوطان، وإنفاق الأموال.   وهذا مِن جليل التدبير الذي لا يخفَى على مَن هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات.   ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخُطَب الطِّوال البليغة، والقِصار المُوجَزة، ولهم الأسْجاع والمزدوج، واللَّفظ المنثور، ثم يتحدَّى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم.   فمُحال - أكرمك الله - أن يجتَمِع هؤلاء كلُّهم على الغلط في الأمر الظاهر، والخطأ المكشوف البيِّن... وهم أشدُّ الخلْق أنَفَة، وأكثرهم مُفاخَرة، والكلام سيِّد عملهم، وقد احتاجُوا إليه، والحاجة تَبعَثُ على الحِيلَة في الأمر الغامِض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة؟! فكذلك مُحال أن يتركوه وهم يعرفونه، ويجدون السبيل إليه، وهم يبذلون أكثر منه)[4].   وهكذا، فإن لدى المسلمين - ولا سيَّما الدُّعَاة منهم - دليلًا قائمًا في هذا الزمان، دليلًا على صدْق نبوَّة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم؛ وهو هذا القرآن الكريم.   ففيه من دلائل النبوَّة إعجازه وبلاغته، وقد أشرْنا إلى ذلك آنفًا؛ قال الله تعالى: ? قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ? [الإسراء: 88].   ويقول سبحانه: ? وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ? [البقرة: 23، 24].   قال الإمام ابن كثير: ومثل هذا التحدِّي إنما يَصدُر عن واثقٍ بأنَّ ما جاء به لا يمكن للبشَر معارضتُه، ولا الإتيان بمثله، ولو كان مِن مُتَقوِّل مِن عند نفسه لخاف أن يُعارَض فيُفتَضَح ويعود عليه نقيضُ ما قصَدَه مِن مُتابَعة الناس له.   ومعلوم لكلِّ ذي لُبٍّ أنَّ محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم مِن أعقل خلْق الله، بل أعقلُهم وأكملُهم على الإطلاق، فما كان ليُقدِم على هذا الأمر إلا وهو عالمٌ بأنه لا يمكن مُعارَضَتُه.   وهكذا وقع، فإنه مِن لَدُنْ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وإلى زماننا هذا لم يَستطع أحدٌ أن يأتيَ بنظيره، ولا نظير سورة منه، وهذا لا سبيل إليه أبدًا[5].   وفي القرآن مِن دلائل نبوَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إخبار القرآن عن الأُمَم السابقة؛ وذلك كإخباره عن نوح وهود وصالح وموسى وغيرهم، وعن أقوامهم؛ قال الله تعالى: ? كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ? [طه: 99]. وقال سبحانه: ? ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ? [هود: 100]. وقال عزَّ وجلَّ: ? تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ? [هود: 49].   وقال تعالى مُخبِرًا عن بُهتان اليهود: ? وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ? [النساء: 156 - 158].   وفي القرآن من دلائل نبوَّة رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إخبار القرآن عن الغيوب المستقبَلة؛ وذلك كإخباره عن انتِصار الروم على الفُرس[6] في قوله تعالى: ? الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ? [الروم: 1 - 4].   وفي القرآن من دلائل نبوَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إخبارُه عمَّا سيكون عليه الصحابة؛ وذلك في قوله تعالى: ? عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ? [المزمل: 20]، وسورة المزمِّل من أوائل ما نزل بمكة.   وإخباره عن انتصار المسلمين في المستقبل في قوله تعالى: ? أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ? [القمر: 44، 45]، وقد وقع مِصداقُ ذلك يوم بدر.   وإخباره عن دخول المسلمين المسجدَ الحرامَ محلِّقين رؤوسَهم في قوله تعالى: ? لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ? [الفتح: 27]، فدخَلُوه بعد سنة معتمرين، ودخلوه بعد سنتين فاتحين.   وإخبارُه بالإشارة الموحِيَة عن حدوث وَسائِطَ للنقل جديدة غير الوسائل المعرُوفة، وذلك في قوله سبحانه: ? وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ? [النحل: 8].   دليلٌ على صدق نبوَّته صلَّى الله عليه وسلَّم، وذلك كإخباره عن حديث نفْسٍ خَطَرَ ببالهم فأطْلع اللهُ نبيَّه عليه، وأنزل قوله سبحانه: ? إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ? [آل عمران: 122]، وقوله: ? أَنْ تَفْشَلَا ?؛ أي: أن تجبُنا وتضعَفا، والطائفتان هما بنو حارثة وبنو سلمة اللتان همَّتا بالتقاعُس عن الخروج يوم أحد.   وكذلك فإنَّ احتِواء القرآن على شريعة كاملة صالحة لكلِّ زمان ومكان أمرٌ يدلُّ على صدق نبوَّة محمد صلَّى الله عليه وسلَّم.   وكذلك فإنَّ اشتِمال القرآن على نظرات صائبة إلى حقائق الكون، وإشارات صادقة إلى بعض الأمور العلمية في الكون والإنسان التي كَشفَ عنها العِلم الحديث، إنَّ ذلك مِن دلائل النبوة، والأمثلة على هذه النظرات والإشارات كثيرةٌ في كُتب التفسير العِلمي.   [1] ""التصوير الفني في القرآن"" (ص 11). [2] انظرها في: ""سيرة ابن هشام"" (1/ 367)، و""البداية والنهاية""؛ لابن كثير (3/ 79). [3] وقد أخرج هذه القصة الحاكم (2/ 507)، عن ابن عباس وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ووافَقَه الذهبي، وانظر: ""سيرة ابن هشام"" (1/ 288)، و""تفسير القرطبي"" (19/ 74)، و""الإتقان"" (2/ 117)، و""البداية والنهاية"" (3/ 61). [4] ""الإتقان"" (2/ 117)، وانظر: ""لمحات في علوم القرآن واتِّجاهات التفسير""؛ لمحمد بن لطفي الصباغ، (ص 78 - 85). [5] ""البداية والنهاية"" (6 /65)، وفي طبعة هجر (8/ 540). [6] وانظر تفصيل هذا الإخبار في كتاب ""الإسلام يتحدى""؛ لوحيد الدين خان، (ص 194 - 204). "
شارك المقالة:
157 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook