"فاطمة.. في اليوم التالي؟! كان عبدالملك بن مروان، الخليفة الأموي، كلما نظر إلى ابن أخيه (عمر بن عبدالعزيز)، أحس في قلبه فورة من الاعتزاز والسرور، لتلك الطلعة البهية، ذات الشجة التي جاءته بنبوءة الخلافة العادلة، والطول الفارع يضفي عليه وقارًا وهيبة وتقديرًا لا حدود له، فيدنيه منه، ويسأله عن أحواله، ويستشيره في أمور الدولة لرجاحة عقله، واستواء حجته! وزاد في إعجابه به: صدقُه وصراحتُه وجرأتُه في مراجعة أمير المؤمنين، فيما لا يقدر أحد عليه، إلا هذا الفتى الأموي!! لقد نشأ عمر في أحضان مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتتلمذ في بيت عبدالله بن عمر بن الخطاب، بيت الفاروق، علامة العدل والغيرة على دين الله الفارقة في تاريخ الإسلام. وفي بيت والده نهل من العلم والفقه والتربية الحسنة ما جعل منه الفتى الأموي الذي يسبق عصره، فلا يجالس إلا الشيوخ، ولا يعرف إلا الجد، وعلوم العصر، والتقى..! كان أمير المؤمنين يجلس وحوله سماره ومنهم عمر بن عبدالعزيز، ويسألهم عبد الملك: كيف يختار الأب زوجًا خيرًا لابنته؟، فتحدث كل واحد برأيه، وأخذ عمر يفكر في فاطمة ابنة عمه، لكنه أبعد هذا الخاطر من نفسه، (فقد يكون عبدالملك أبقى تلك الفتاة الراجحة العقل.. الذكية والجميلة، لأحد شباب البيت الأموي من أمراء البلدان الغنية)! وينتبه عمر من خواطره.. وعمه عبدالملك يقول: يعجبني قول الحسن البصري لما جاءه مَنْ يسأله: (إن لي بنية؛ فمن ترى أن أزوجها؟! قال الحسن: زوجها ممن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يُهنها). التفت عبدالملك، بعد ذلك إلى عمر وقال: (يا ابن أخي قد زوجك أمير المؤمنين ابنته فاطمة)! ولم يصدق عمر نفسه، واعتقل الفرح لسانه لحظة، ثم قال: (وصلك الله يا أمير المؤمنين، لقد كفيت المسألة، وأجزلت في العطية)! جهزها والدها بأفخر الثياب، وكان ثوب عرسها من الحرير المنسوج بخيوط الذهب، والمرصع بالجواهر، وأهداها جواهر نفيسة بمائة ألف دينار!. وبنى لها قصرًا في ضاحية من ضواحي دمشق، قضى فيها العروسان أجمل أيام عمرهما، لكن ذلك كله ما كان ليشغل عمر عن مجالس عمه، والسماع منه، والإشارة بما ينفع الناس! ويتولى الوليد بن عبد الملك خلافة المسلمين، ويرسل عمر بن عبدالعزيز.. واليًا إلى مدينة رسول الله! ويحمل الأمير الجديد متاعه وكتبه وثيابه وعطره على ثلاثين بعيرًا.. وأناخت القافلة في (قصر مروان) في المدينة المنورة، ويفرح أهل المدينة فرحًا عظيمًا لهذا الوالي الذي عرفوه صغيرًا يجالس الشيوخ، ويتعلم الفقه، ويتربى في بيت عبدالله بن عمر! ويطلق عمر سجناء الرأي من السجون! ويجمع من أهل المدينة مجلسًا لا يقطع أمرًا إلا بمشورته! ويرفع عنهم المظالم.. ويقتص لهم من أميرهم السابق.. ولا يزال ينكر على أمراء الأمصار مظالمهم، وسفكهم الدماء وعلى رأسهم الحجاج بن يوسف في العراق! ويصله كتاب أمير المؤمنين أن يكون أميرًا على الحج عامه هذا، ويتأهب عمر لزيارة مكة... البلد الحرام، ويرى ما فيه الناس من ضيق، وحاجة، فقد انحبست الأمطار وقلت الأرزاق! وإلى ظاهر مكة يخرج عمر ومعه الناس، ويدعو ربه ويصلي صلاة الاستسقاء، وتنزل الأمطار غزيرة، ويفرح الناس فرحًا شديدًا.. وينظرون السماء فلا يجدوا فيها سحابًا! ويعود عمر إلى المدينة، وقد عزم أن يكلم الوليد في مظالم الحجاج، فقد أسمعه الناس فظائع الحجاج، وسفكه للدماء وسجنه للرجال والنساء معًا، وأخذه بالظنة. ويذهب إلى دمشق.. ويراجعه في الحجاج، ويفطن الحجاج إلى ذلك.. ويحاول أن يفسد رأي عمر.. ويرسل الحجاج أعرابيًا ناقمًا على البيت الأموي إلى دمشق، وبين يدي الوليد، يسأله الخليفة: يا أعرابي.. ما تقول في أنا؟ ويجيب في حدة: (ظالم جائر جبار). فأمر الوليد بضرب عنق الأعرابي.. وعذر الحجاج!! دعا الوليد عمر بعد ذلك.. وسأله: يا أبا حفص، ماذا تقول في هذا (الأعرابي) أصبنا فيه أم أخطأنا؟! ويستجمع عمر شجاعته ونصحه وخوفه من الله.. ورعايته لدماء المسلمين، ويقول: (ما أصبت بقتله، ولغير ذلك كان أصوب وأرشد. كنت تسجنه حتى يراجع الله عز وجل، أو تدركه منيته؟!). قال الوليد: شتمني، وشتم عبد الملك، وهو حروري (من الخوارج)، أفتستحل ذلك؟! قال عمر: لعمري ما أستحله، كنت تسجنه إن بدا لك، أو تعفو عنه. فانصرف الوليد ساخطًا، وقد دخل قلبه شيء من عمر، وأصبح أكثر تقبلا لما يقوله فيه الحجاج! اتسعت الدنيا في عهد الوليد، وانهالت الغنائم والأموال إلى عاصمة الخلافة.. وأضيفت مساحة جديدة إلى رقعة الدولة، (ومات الحجاج والي العراق، فحزن الوليد حزنًا شديدًا عليه واستبشر عمر خيرًا بذلك). وجاء سليمان بن عبد الملك خليفة بعد الوليد، وأحل عمر بن عبدالعزيز مكانه الذي يستحقه من نفسه ومن شؤون الدولة، ولكن شدة عمر في الحق، ورأفته بالمسلمين، وميله إلى احتمال المخالفين.. والبعد عن سفك الدماء، كان ذلك بين الحين والحين يفسد تلك العلاقة التي لم يكن سليمان يحتمل فيها الجفاء الذي يبعده عن عمر، أو يبعد عمر عنه! ومما يؤثر لعمر أنه كان سببًا في تقريب الرجل الصالح (رجاء بن حيوة) من سليمان، فاتخذه سليمان حافظ سره ومحط ثقته، يستشيره في كل أموره، ولا يقطع أمرًا دونه! ويمرض سليمان، وعندما شعر بدنو أجله، أرسل إلى رجاء يدعوه إليه: يا رجاء.. من ترى يصلح لولاية العهد؟ فلم يجبه رجاء!؟. ويشتد المرض على سليمان.. وأعاد السؤال على رجاء لعله يشير عليه!! يقول رجاء: (إنه مما يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف الرجل الصالح)، لكنه لم يسم له أحدًا.. ويأمر سليمان رجاء بن حيوة أن يأتيه بقلم ودواة، وهو يجلس على فراشه، ويكتب سليمان بخط يده: (من عبدالله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبدالعزيز، إني وليته الخلافة من بعدي ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم) وختم سليمان الكتاب. وصلى عمر على سليمان، وشيعه الناس إلى مثواه الأخير. وبدا عهد الرجل الصالح عمر بن عبدالعزيز... فلما فرغ عمر من جنازة سليمان (دعا من مكانه بدواة وقرطاس وأصدر أوامره). يرجع مسلمة بن عبد الملك عن أسوار القسطنطينية. يعزل أسامة التنوخي عن خراج مصر. يعزل يزيد بن مسلم عن أفريقيا لأنه (أصبح أمير سوء، جبارًا، متألها، يعذب الرعية)!. ويحتجب أمير المؤمنين في بيته ثلاثة أيام، يقرأ القرآن ويصلي، ويتفكر في مسؤوليته التي آلت إليه، فينخفض لعظمها، وخوفه من ربه! وينظر في تراث عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، ماذا فيه من الحكمة، وماذا فيه من سيرة الحاكم الصالح: (يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون). (إن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته، وإن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته). (ولا تضربوا الناس فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم). (لئن بقيت ليأتين الراعيَ بجبل صنعاء حظُّه من هذا المال وهو في مكانه). ويأمر عمر بجمع ثيابه.. وعطوره وركائبه، فتباع ويجعل ثمنها في بيت المال! ويكتب إلى الحسن البصري، وإلى مطرف بن عبدالله، وهما من صالحي الأمة في ذلك الوقت، أن يعظاه، ولا يزكيانهّ... ويكتبان إليه. أما الحسن فقال: (سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن الدار مخوفة، هبط إليها آدم عليه السلام عقوبة، تهين من أكرمها، وتكرم من أهانها، وتفقر من جمع لها، لها في كل يوم قتيل، فكن يا أمير المؤمنين كالمداوي لجرح، واصبر على شدة الدواء، لما تخاف من طول البلاء). ورد عليه مطرف بعظة، ملكت عليه نفسه! وتدخل عليه فاطمة مجلسه، فتجده يبكي بحرقة.. (ما بك يا أمير المؤمنين) ويشعر برجفة تزلزل كيانه..... ماذا أقصاك عنا، وأنت في وحدتك منذ ثلاثة أيام؟.. يا فاطمة: (إني تقلدت أمر أمة محمد! فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري والمظلوم، والغريب والأسير، والشيخ الكبير وأشباههم في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد -صلى الله عليه وسلم- فخشيت أن لا تثبت لي حجة عند الخصومة، فرحمت نفسي فبكيت).!! فقالت له: (لك الله يا ابن العم، هون عليك، فداك أبي وأمي، لكأنك تحسب أن الله ما خلق النار إلا من أجلك)! وساد الصمت، وأشارت إليه فاطمة وكانت امرأة ذات عقل وحكمة، أن يرسل إلى عماله في الأمصار بنصائحه!!. وعلى الفور يكتب إلى يزيد بن المهلب والي خراسان. وكتب إلى عامله على سمرقند. وكتب إلى عامله على الكوفة. ثم بعد أن فرغ من رسائله، قال لها: يا فاطمة.. إني سأنظر فيما يملكه أعيان الناس..... فما كان مغتصبًا رددته إلى أهله! ونظر إليها يتأملها كأنه يأمرها باستحضار تساؤل في ذهنها... وقال لها: (إن أردتني يا فاطمة، فردي ما معك من مال وحلي وجوهر إلى بيت المال، فإنه للمسلمين، وإني لا أجتمع أنا وهو في بيت واحد)؟!! فردته جميعًا.. وظفرت بعمر بن عبدالعزيز!! "
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.