"آيات منيرة في أحداث السيرة (3) حديثنا اليوم عن عمرة الحديبية.. تحسنت بفضل الله الظروفُ في الجزيرة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين، وبدا نجاحُ الدعوة الإسلامية يلوح في الأفق ويبددُ سحائبَ الكفر والضلال، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام بعد أن حُرموا ذلك. ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام، وهو بالمدينة، أنه دخل هو وأصحابه المسجدَ الحرام، وأخذ مفتاحَ الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضُهم وقصّر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابَه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك، وأخبر أصحابه أنه معتمرٌ فتجهزوا للسفر. وما هي إلا مدة يسيرة حتى غسل - صلى الله عليه وسلم - ثيابه، وركب ناقته القَصْواء، واستخلف على المدينة ابنَ أم مكتوم أو نُمَيْلَة الليثي. وخرج منها يوم الاثنين غرةَ ذي القَعدة سنة 6هـ، ومعه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة، ويقال: ألف وخمسمائة، ولم يخرج معه بسلاح، إلا سلاح المسافر: السيوف في القُرُب. وتوجه إلى مكة، حتى إذا أتى ذا الحُلَيْفَة قَلَّد الهدي وأشْعَرَه، وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وقد أُخبر -صلى الله عليه وسلم- أن قريشًا تريد صده عن البيت، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقال: (أترون نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله، أم تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟) فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فروحوا)، فراحوا. وقررت قريش صد المسلمين عن البيت كيفما يمكن، فبعد أن أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأحابيش، نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشًا نازلة بذي طُوَى، وأن مائتي فارس في قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكُرَاع الغَمِيم في الطريق الرئيس الذي يوصل إلى مكة. وقد حاول خالد صد المسلمين، فقام بفرسانه إزاءهم يتراءى الجيشان. ورأى خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون، فقال: لقد كانوا على غرة، لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ثم قرر أن يميل على المسلمين -وهم في صلاة العصر- ميلة واحدة، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف، ففاتت الفرصة خالدًا. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقاً وَعْرًا بين شعاب، وسلك بهم ذات اليمين بين ظهري الحَمْض في طريق تخرجه على ثنية المُرَار مهبط الحديبية من أسفل مكة، وترك الطريق الرئيس الذي يفضي إلى الحرم مارًّا بالتنعيم، تركه إلى اليسار، فلما رأى خالد قَتَرَة الجيش الإسلامي قد خالفوا عن طريقه انطلق يركض نذيرًا لقريش. وسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كان بثنيّة المرار بركت راحلته، فقال الناس: حَلْ حَلْ، فألَحَّتْ، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابسُ الفيل)، ثم قال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خُطة يعظمون فيها حرماتِ الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية، على ثَمَد قليل الماء، إنما يتبرّضه الناس تبرضًا، فلم يلبث أن نزحوه. فشكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العطش، فانتزع سهمًا من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا. وجاء رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم- رجلٌ من كنانة وهو (الحُلَيْس بن علقمة) فلما قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البُدْن، فابعثوها)، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأى ذلك. قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أرى أن يصدوا، وجرى بينه وبين قريش كلام. ثم جاءه عروة بن مسعود الثقفي، فقال: أي محمد أرأيت لو استأصلتَ قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى فوالله إني لا أري وجوهًا، وإني أرى أوباشًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك، فسبه أبو بكر الصديق –رضي الله عنه سبًّا شديدًا، وتصدى له المغيرة بن شعبة. ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمَهم له، فرجع إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحابُ محمد محمدًا، والله إن تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها. ولكنهم لم يستمعوا لما قال، فقرروا أن يخرجوا ليلاً، ويتسللوا إلى معسكر المسلمين، ويحدثوا أحداثًا تشعل نار الحرب، وفعلاً قد قاموا بتنفيذ هذا القرار، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبطوا من جبل التنعيم، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أن محمد بن مسلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعًا. ورغبة في الصلح أطلق سراحهم النبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنـهم، وفي ذلك أنزل الله: ? وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ? [الفتح: 24]. وقرر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أن يرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى قريش؛ ليخبرهم أنهم ما أرادوا قتالا، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان. فلما أتاهم، وسمعوا ما قال، عرضوا عليه أن يطوف بالبيت فأبى، حتى يطوف الرسول صلى الله عليه وسلم!. واحتبسته قريش عندها، وطال الاحتباس، حتى شاع بين المسلمين أن عثمان قتل، ثم دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا، وبايعته جماعة على الموت، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيد نفسه وقال: (هذه عن عثمان). ولما تمت البيعةُ جاء عثمان فبايعه، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له: جَدُّ بن قَيْس. أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذًا بيده، ومَعْقِل بن يَسَار آخذًا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها آيةً عظيمة تُخبر أنه قد رضي عن تلك الثلة التي لم يشهد التاريخُ مثلها، فرضي الله عنهم أجمعين. فما تلك الآية؟ وفي أي جزء من القرآن وردت؟ أدع الجواب للقرَّاء رغبة في تفعيل مشاركتهم في هذا المقال. "
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.