من الأقوال الدَّارجة والشائعة على ألسنة المسلمين أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن أحد الأساتذة والدعاة الأفاضل عدَّل هذه المقولة، وقال: إن الإسلام مصلح في كل زمان ومكان، فلما تأملت في مقولته وجدت أنها أصح وأدق من الأولى؛ ذلك أن عبارة الإسلام صالح مطاطة، وربما يقوم البعض - بناءً على فَهمِه لها - بالتساهل في بعض القضايا باسم الدين، أو بِلَيِّ بعض النصوص حتى تنسجِم مع روح العصر كما يقولون، فيفسد أكثر مما يصلح.
ولكن عبارة الإسلام مصلح توحي بوضوحٍ أن طبيعةَ هذا الدين واضحةٌ لا تحتمل التلبيس، صلبة لا تقبل التمييع، وأن هناك ثوابتَ وركائزَ لا تتغير ولا ينبغي المساس بها، وأن هناك ميزانًا دقيقًا تنضبط به العقول والمدارك، وتوزن به الاتجاهات والحركات والتصورات، فما قبله هذا الميزان كان صحيحًا، وما رفضه كان خاطئًا يجب الإقلاع عنه، هكذا تنضبط الأمور، وإلا فستشيع الفوضى.
كما وأن عبارة الإسلام صالح تعني: أن الصلاح مقتصر على المنهج، ولكنها لا تعني بالضرورة أن يتعدى هذا الصلاح للحركة الحياتية؛ لإصلاح ما فيها من أنظمة معوجَّة وسلوكيات خارجة عن حد الفطرة ومنهج الله، وكذلك العبارة لا تنفي وجود مناهج أخرى صالحة للبشر وحركة الحياة على الأرض، وهذا يتنافى مع كون الإسلام الدين الخاتم.
بينما قولنا: إن الإسلام مصلح يعني بالضرورة: أنه الدين الذي يقوم على تصحيح الاعوجاج الحاصل من الدينونة لغير شرع الله، وإنقاذ البشر من قصور مناهجهم وأخطائها، ليرفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده الله للإنسان، فالإسلام ليس مجرَّد كلمات وشعارات، ولا مجرد شعائر تعبدية وصلوات، والإيمان ليس مجرد مشاعر وتصورات، وهذا يجب أن يعيَه كل من ينتسب لهذا الدين، فالعقيدة الإسلامية عقيدة دافعة مُحْيِيَة، موقظة رافعة مستعلية؛ تدفع إلى الحركة لتحقيق مدلولها العملي فور استقرارها في القلب والعقل، فما أن تستقر حقيقة الإيمان في قلب المسلم إلا ويتحرك ويعمل من أجل هذا الدين، ولا يقِف عند حدِّ صلاح ذاته، فالصلاحُ يقتضي الإصلاح، وهذا ما فعله المسلمون الأوائل، فصنع الله بهم أدوارًا عميقة الآثار في الوجود الإنساني وفي التاريخ الإنساني.
قال تعالى: ? وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ? [الأعراف: 181]، يقول سيد قطب: إن صفة هذه الأمة - والتي لا ينقطع وجودها من الأرض أيًّا كان عددها – أنهم (يهدون بالحق)؛ فهم دعاة إلى الحق، لا يسكتون عن الدعوة به، وإليه، ولا يتقوقعون على أنفسهم، ولا ينزوون بالحق الذي يعرفونه، ولكنهم يهدون به غيرهم، فلهم قيادة فيمن حولهم من الضالين، ولهم عمل إيجابي لا يقتصر على معرفة الحق، إنما يتجاوزه إلى الهداية به، والدعوة إليه والقيادة باسمه.
وقال تعالى: ? وما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرى? بِظُلْمٍ وأَهْلُها مُصْلِحونَ ? [هود: 117]، يقول سيد قطب: وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم؛ فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله، في صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير، فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها، إما بهلاك الاستئصال، وإما بهلاك الانحلال، والاختلال.
فأصحاب الدعوة إلى ربوبية الله وحده، وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره، هم صمام الأمان للأمم والشعوب، وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية الله وحده، الواقفين للظلم والفساد بكل صوره، إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله، واستحقاق النكال والضياع.
اللهم، إنا نعوذ بك من أن يحل بنا غضبك، أو أن ينزل بنا سخطك، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم، آمين.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.