بعد أن أتمّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- رسالته ومهمّته في تعليم أصحابه تشريعات الدين، وبعد إتمام الحجّة آخر الأركان التي أدّاها النبيّ عليه السلام، شاء الله تعالى أن يقبض نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، ولمّح النبي في خطبة يوم الحجّ أنّ أجله قد اقترب، فكان من جملة ما ذكره لأصحابه يومها: (لِتأْخذوا مناسكَكم، فإنّي لا أدري لعلِّي لا أحُجُّ بعدَ حَجَّتي هذهذلك فقد أوصى ببعض أصحابه، وأهل بيته خيراً، فأدرك أبو بكرٍ من طريقة كلام النبيّ -عليه السلام- أنّ أجله قد اقترب، ولقد كان النبيّ -عليه السلام- في يوم خيبر قد قدّم له اليهود شاةً مسمومةً، يزعمون أنّه إن كان نبيّاً فإنّها لن تضرّه، وإن كان سوى ذلك فسيلقى بها حتفه، فأثّر سمّ الشاة بالنبيّ عليه السلام، وصار يجد إثرها بعض الحمّى والصداع من حينٍ لآخرٍ، حتى علته الحمّى والصداع حين اقتربت منيّته في التاسع والعشرين من شهر صفر للعام الحادي عشر للهجرة، ولم يتماثل للشفاء بعد ذلك
بعد وفاة النبيّ -عليه السلام- وقع المسلمون في حيرةٍ حول أفضل مكانٍ لدفن النبيّ عليه السلام، واختلفوا في ذلك، حتّى أخبرهم أبو بكرٍ -رضي الله عنه- أنّه سمع من النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قوله: (ما قبض الله نبياً، إلّا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه) فكان الاتّفاق أن يُدفن في حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها، وتحت الفراش الذي مات فيه، فحفر الصحابة القبر مكان الفراش، وبدؤوا بتحضير عملية التكفين، والغسل للدفن
وقعت الحيرة مجدّداً بين الصحابة حول كيفيّة تغسيل النبيّ عليه السلام، إذ هل من الصواب تجريده من ملابسه، أم إبقائه في ملابسه فيُغسّل بها، فأنزل الله تعالى النوم عليهم، ثمّ نادى فيهم منادٍ أن يبقوه في ملابسه فلا يجرّدونه منها، فقاموا جميعهم وقد أدركوا ما عليهم فعله، فأقبل إلى النبيّ -عليه السلام- العباس، وعليّ، والفضل وقثم ابنا العبّاس، وشقران مولى النبيّ، وأسامة بن زيد، وأوس بن خولي يغسّلونه، فعمّه العباس وابنيه يقلّبونه، وشقران وأسامة يصبّان الماء، وعليّ يغسّله، وأوس أسنده إلى صدره، ثمّ كفّنوه بثلاثة أثوابٍ بيضٍ من كرسف قطنٍ، ليس فيها قميصٌ ولا عمامةٌ، فأدخلوه فيها إدخالاً
كان خبر وفاة النبيّ -عليه السلام- أشبه بالصاعقة، نزلت على أصحابه حين سمعوها، حتى إنّ بعضهم ومنهم عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- أنكر هذا الخبر، وتوعّد من يتناقله بالقتل بالسيف؛ لصعوبة تصوّر أنّ هذا الخبر حقيقةً، إلّا أنّ الله تعالى أكرم أبا بكرٍ صاحب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالحكمة، فعندما سمع الخبر، ذهب إلى النبي ينظر إليه ليتأكد صحّة الخبر، ثمّ قبّله على جبهته، وعاد إلى المسلمين في المسجد، وقال بثقةٍ ورضا: (ألَا مَن كان يَعبُدُ مُحمَّداً صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فإنَّ مُحمَّداً قَد مات، ومَن كان يَعبُدُ اللهَ، فإنَّ اللهَ حيٌّ لا يَموتُ، وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهمْ مَيِّتُونَ، وَقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِه الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) فكأنّ الصحابة يسمعون هذه الآية لأول مرةٍ في حياتهم، قال عمر رضي الله عنه: (والله ما هو إلّا أن سمعت أبا بكرٍ تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، حتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قد مات ولقد صعُب على المسلمين إنزال النبيّ -عليه السلام- في قبره، وإنزال التراب عليه، حتّى قالت فاطمة لأنسٍ -رضي الله عنه- بعد انتهاء الدفن: (يا أنسُ، أطابَتْ أنفسُكم أن تَحثوا على رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- الترابَ)