"أما هذا فقد قضى ما عليه، وأما أنا فمتى أقضي ما علي؟"

الكاتب: المدير -
"أما هذا فقد قضى ما عليه، وأما أنا فمتى أقضي ما علي؟
(مادة مرشحة للفوز في مسابقة كاتب الألوكة)

 

قال الإمام مسلم - رحمه الله -: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع عن سفيان ح وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة كلاهما عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب، وهذا حديث أبي بكر قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أمَّا هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإنْ لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))؛ صحيح مسلم.

 

اعلم أنَّ هذا الباب أعني باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان مُتطاولة، ولم يبقَ منه في هذه الأزمان إلَّا رسومٌ قليلة جدًّا، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كَثُرَ الخبث، عمَّ العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم، أوشك الله أن يعمهم بعقابه؛ ? فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? [النور: 63]، فينبغي لطالب الآخرة والسَّاعي في تحصيل رضا الله - عزَّ وجلَّ - أن يعتنيَ بهذا الباب، فإن نفعه عظيم، لا سيما وقد ذهب معظمه، ويخلص نيته.

 

هذا هو السببُ الأوَّل لاختيارِ هذا الموضوع للكتابة عنه.

 

وهناك أسباب أخرى؛ منها:

وصف الله - تعالى - هذه الأمة بالخيرية؛ لقيامها بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال تعالى: ? كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ? [آل عمران: 110]، كذلك وصف القائمين بهذا الواجب بالفلاح؛ قال تعالى:? وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? [آل عمران: 104]، ومنها: أن الله وصف المؤمنين والمؤمنات بقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بجانب بقية الفرائض، كالزكاة والصلاة في حين ذم المنافقين والمنافقات؛ حيث فعلوا عكس ما أمروا به، فأمروا بالمنكر، ونهوا عن المعروف؛ قال تعالى واصفًا حال الفريقين: ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ? [التوبة: 71]، ? الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ? [التوبة: 67]، كذلك بيَّن تعالى مآلَ الفريقين، فالفريقُ الأوَّل مآله نيل رحمة الله، والفوز بـ ? جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ? [التوبة: 72]، وأمَّا الفريق الثاني، فمآله نار جهنم ونيل لعنة الله ولهم عذاب مقيم، فهذه المقالة مُحاولة لتحفيز نفسي وإخواني للإفلات من هذا الوصف وهذا المآل.

 

ومنها: شيوع كثير من المنكرات في بلدنا؛ بسبب تقصيرنا في تغيير المنكرات حتَّى صارت هذه المُنكرات عادةً وسجيَّة، وصار إنكارُها مستغربًا، فأنا من مدينة ساحلية كانت ثغرًا من ثُغُور الإسلام، صارت الآن ملتقى للفُسَّاق على (كورنيش) البحر؛ حيثُ ترتكب على رماله مُختلف الفواحش التي يُستَحى من ذكرها، وقد بدأ ارتكاب هذه الفواحش منذ سنوات بصُورة قليلة وخفيَّة، ثُمَّ زادت تدريجيًّا؛ بسبب تقصيرنا في إنكارها، وبسبب حماية الحكومات، بدعوى الحرية والتقدُّم، حتى وصلت إلى حالة يصعُب تغييرها حاليًّا.

 

ومنها: أنني قرأت قولَ أبي سعيد الخدري راوي الحديث المذكور: أما هذا فقد قضى ما عليه، كذلك رأيت أثناء سيري على (كورنيش) مدينتي كلمات كتبها أحد الخطاطين على الكتل الخرسانيَّة الموجودة على الشاطئ كتب قائلًا: الله يراك، أترضاه لأختك؟، الله يطلع عليك، وغيرها من الكلمات القصيرة المُعبِّرة، فقلت في نفسي: أمَّا هذا فقد قضى ما عليه، ثم أردفت قائلًا: أما أنا، فمتى أقضي ما عليَّ.

 

قال الإمام النَّووي في شرحه لهذا الحديث: قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فليغيره))، فهو أمر إيجاب بإجماع الأُمَّة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتابُ والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين، ولم يُخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يُعتَدُّ بخلافهم.

 

وأمَّا قول الله - تعالى -: ? عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ? [المائدة: 105]، فليس مخالفًا لما ذكرناه؛ لأنَّ المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به، فلا يضركم تقصير غيركم، مثل قوله - تعالى -: ? وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ? [الأنعام: 164]، وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمرُ بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يستجبِ المخاطَب، فلا عتْبَ بعد ذلك على الفاعل؛ لكونه أدَّى ما عليه، فإنَّما عليه الأمر والنهي لا القبول، والله أعلم.

 

ثانيًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به بعض الناس، سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميعُ، أثم كل مَن تَمكَّن منه بلا عذر ولا خوف.

 

ثالثًا: الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر قد يتعيَّن، كما إذا كان في مكان لا يعلم به إلَّا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمَنْ يَرى زوجته أو ولده أو غلامه على مُنكر أو تقصير في معروف.

 

رابعًا: قال العلماء - رحمهم الله -: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله؛ فإنَّ الذكرى تنفع المؤمنين، وكما قال الله - تعالى -: ? مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ? [المائدة: 99].

 

خامسًا: قال العلماء - رحمهم الله -: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلًا ما يأمر به مجتنبًا ما ينهى عنه؛ بل عليه الأمر وإن كان مخلاًّ بما يأمر به، وإن كان متلبسًا بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أنْ يأمرَ نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فرض على حاملي الكؤوس أن يتناصحا.

 

سادسًا: قال العلماء - رحمهم الله -: ولا يختص الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر بالولاة أو مَن ينوب عنهم، بل ذلك جائز لآحاد المسلمين؛ قال إمام الحرمين - رحمه الله -: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصَّدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف، وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إيَّاهم، وترك توبيخهم على التشاغُل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية، والله أعلم.

 

سابعًا: الآمر والناهي مَن كان عالِمًا بما يأمر به، وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظَّاهرة والمحرمات المشهورة كالصَّلاة والصيام والزِّنا والخمر ونحوها، فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال، ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكُن للعَوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره، بل ذلك للعلماء.

 

ثامنًا: العلماء إنَّما ينكرون ما أجمع عليه، أمَّا المختلف فيه، فلا إنكار فيه؛ لأنه على أحد المذهبين، فلا إنكار فيه، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف، فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحثِّ على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر، وذكر أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي الشافعي البصري في كتابه الأحكام السلطانيَّة خلافًا بين العلماء في أن من قلده السلطان الحسبة، هل له أن يحمل الناسَ على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء، إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد، أو لا يغير ما كان على مذهبِ غيره؟ والأصح أنه لا يغير؛ لما ذكرنا، ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصَّحابة والتَّابعين، فمن بعدهم - رضي الله عنهم أجمعين - ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه، إذا لم يخالفْ نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا جليًّا، والله أعلم.

 

تاسعًا: ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يخلص نيته، ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته؛ فإن الله - تعالى - قال: ? وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ? [الحج: 40] ، وقال تعالى: ? وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ? [آل عمران: 101]، وقال تعالى: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ? [العنكبوت: 69]، وقال تعالى: ? أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ? [العنكبوت: 2، 3]، وليعلم أن الأجر على قدر النصب.

 

عاشرًا: وينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر كذلك ألَّا يُتارِكَ من يُنكر عليه؛ لصداقته ومودته ومُداهنته، وطلب الوجاهة عنده، ودوام المنزلة لديه، فإنَّ صداقته ومودته تُوجب له حُرمة وحقًّا، ومن حقِّه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومُحبه مَن سعى في مصالح آخرته، وإن أدَّى ذلك إلى نقص في دُنياه، وعدوه من يسعى في نقص أو ذَهاب آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دُنياه، وإنَّما كان إبليس عدوًّا لنا لهذا، وكانت الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - أولياء للمؤمنين؛ لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم اليها.

 

حادي عشر: وينبغي للآمر بالمعروف والنَّاهي عن المنكر كذلك أن يرفق؛ ليكونَ أقربَ إلى تحصيل المطلوب، فقد قال الإمام الشَّافعي - رضي الله عنه -: من وعظ أخاه سرًّا، فقد نصحه وزانه، ومَن وعظه علانية، فقد فضحه وشانه.

 

صفة النهي ومراتبه:

قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الصحيح: ((فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه))، فقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فبقلبه))، معناه: فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمُنكر، ولكنَّه هو الذي في وُسعه.

 

قال القاضي عياض - رحمه الله -: هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغيِّر أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولًا كان أو فعلًا، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر مَن يفعله، وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه، أو بأمره إن أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم المخوف شرُّه؛ إذ ذلك أدعى لقبول قوله، كما يستحب أن يكون متولِّي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غَيِّه، والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه أشد مما غيره؛ لكون جانبه محميًّا عن سطوة الظالم، فإنْ غلب على ظنه أنَّ تغييره بيده أشد منه من قتله بيده أو قتل غيره، كف يده، واقتصر على القول باللِّسان والوعظ والتخويف، فإنْ خافَ أن يسبب قوله مثل ذلك، غيَّر بقلبه، وكان في سَعَة، وهذا هو المراد بالحديث - إن شاء الله تعالى - وإن وجد مَن يَستعين به على ذلك استعان ما لم يُؤدِّ ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى مَن له الأمر إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه، هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العُلماء والمحققين، خلافًا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكُلِّ حال، وإن قتل ونيل منه كل أذًى، هذا آخر كلام القاضي عياض - رحمه الله.

 

قال إمام الحرمين - رحمه الله -: ويسوغ لآحاد الرعية أنْ يصد مُرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينتهِ الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان؛ قال: وإذا جار وإلى الوقت وظهر ظلمه وغشمه، ولم ينزجر حين زجر عن سوء صنيعه بالقول، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه، ولو بشهر الأسلحة، ونصب الحروب، هذا كلام إمام الحرمين، وهذا الذي ذكره من خلعه غريب، ومع هذا محمول على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه؛ قال وليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدَّور بالظنون، بل إن عثر على منكر غيره جهده، هذا كلام إمام الحرمين.

 

قال الماوردي: ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات، فإنْ غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثارٍ ظهرت، فذلك ضربان:

أحدهما: أنْ يكونَ ذلك في انتهاك حُرمة يفوت استدراكها، مثل أن يخبره من يثقُ بصدقه أن رجلًا خلا برجلٍ ليقتله، أو بامرأة لِيَزْنِيَ بها، فيجوز في مثل هذه الحال أن يتجسس، ويُقدِم على الكشف والبحث؛ حذرًا من فوات ما لا يستدرك، وكذا لو عرف ذلك غيرُ المحتسب من المتطوعة، جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار.

 

الضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرُّتبة، فلا يجوز التجسس عليه، ولا كشف الأستار عنه، فإن سمع أصواتَ الملاهي من دارٍ، أنكرها خارج الدار، ولم يهجم عليها بالدُّخول؛ لأن المنكر ظاهر، وليس عليه أنْ يكشفَ عن الباطن.

 

نماذج من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

من أعظم ما يهتم به الداعية هداية قَومه وبُلُوغ الجهد في النُّصح لهم، كما يتضح ذلك جليًّا لمن تدبر سورة نوح على سبيل المثال؛ قال تعالى على لسان نوح: ? إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ? [نوح: 5]، ? ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ? [نوح: 8، 9]، وكذا قصص سائر المرسلين حتَّى خاتمهم وسيدهم محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكذا أتباعهم، كمؤمن آل فرعون الذي قال لقومه: ? يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ? [غافر: 29]، وكحبيب النجار الذي حمل هو دعوة قومه في الحياة، أبلغ في النصح لهم بعد الاستشهاد: ? قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ? [يس: 26، 27].

 

هداية الناس والنُّصح لهم كانت قضية كل داعية على مرِّ تاريخ الإسلام، هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام، واعتز الإسلام بهم، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة، سواء كانوا علماء أو دعاة أو مُجددين، أو مجاهدين أو مربين أو عبادًا صالحين، ولو لم يتحلَّوا بذلك، لَمَا كان لهم موضع قدم في قوائم العُظماء، ولما تربعوا في قلوب أبناء مِلَّتهم، ولا تزيَّنت بذكرهم صَحائف التَّاريخ، ولا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين.

 

وأسوتهم في ذلك - بل في كل باب من أبواب الخير - هو الصادق المصدوق - صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

والأمثلة على ذلك كثيرة، منها سؤال عبدالله بن شقيق عائشة - رضي الله عنها -: أكان نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصلي جالسًا؟ قالت: بعدما حطمه الناس، ومنها حديث سؤال حذيفة للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الشر؛ مَخافَةَ أن يدركه، فسياق الحديث يَشِي بحرص حذيفة على تعميم الانتفاع بالإرشاد النبوي في زمن الفتنة إلى جميع المسلمين من بعده، وكان الصَّادق المصدوق - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُنادي في موسم الحج: ((مَن يَحملني حتَّى أبلغ رسالة ربي؟))، ويقول: ((بلغوا عنِّي ولو آية))، ويدعو لمن بلغ عنه: ((نضَّر اللهُ امْرَأً سمع منَّا شيئًا، فبلغه كما سمعه، فرُبَّ مبلغ أوعى من سامع))، ورُوِي أنَّه كان يقول في دُعائه: ((واجعلنا هداة مَهتدين)).

 

وهذا الغزالي - رحمه الله - يقول في الإحياء (2/342): اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان، فليس خاليًا في هذا الزَّمان عن مُنكر، من حيثُ التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف، فأكثر النَّاس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف في القُرى والبوادي؟ ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية، وسائر أصناف الخلق.

 

وواجب أنْ يكونَ في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يُعلم النَّاس دينهم، وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه، فرغ من فرض عينه، وتفرغ لفرض الكفاية - أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد، ومن العرب والأكراد وغيرهم، ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم.

 

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مجموع الفتاوى (16/327) يفسر قوله - تعالى -: ? يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ ? [المدثر: 1، 2]، فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إليه، وينذروا كما أنذر، وقال الله - تعالى -: ? فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ? [التوبة: 122]، والجن لما سمعوا القرآن، ? وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ? [الأحقاف: 29].

 

وهذا تلميذه ابن القيم - رحمه الله - يقول في التفسير القيم، ص431: وتبليغ سنته - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأنَّ تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأمَّا تبليغ السنن، فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء، وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله - تعالى - منهم بمنِّه وكرمه.

 

وقال الوزير ابن هبيرة في قوله - تعالى -: ? وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ? [يس: 20]: وقوله - عزَّ وجلَّ -: ? وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ? [يس: 20]، تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بُعدٍ في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبُعد الطريق.

 

عن شجاع بن الوليد قال: كنت أخرج مع سفيان الثوري، فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ذاهبًا وراجعًا.

 

وأمَّا الإمام الجليل الخرقي صاحب المختصر، فقد قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله -: وسمعت أن سبب موته أنَّه أنكرَ مُنكرًا بدمشق، فضُرب، فكان موته بذلك.

 

قال الأستاذ محمد أحمد الراشد في كتابه المنطلق، ص198: إن الداعية العالي الهمة لا ينكر المنكر فحسب، بل ينكر على أهل المنكر منكرهم؛ أي: إنَّه لا يعرف التعميم، ولا التورية، إنَّه يمد أصبعه يشير إلى الطاغوت بالاتِّهام، ويرفع صوتَه يُعلن فضيحة الكُفر الذي أمامه باسمه ورقمه وعنوانه، ثم لا يلبثُ الأصبع الواحد حتَّى ينفتح معه بقية الخمس، فتكون يد التغيير من بعد أصبع الاتِّهام.

 

يذكر الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم في كتابه الماتع في علو الهمة، ص285-287، نقلًا من العائدون إلى الله ص73-76، قصصًا واقعية تبرز قيمة عنصر المبادأة والمبادرة والحركة إلى مواقع يندر من يتأهَّل لاقتحامها؛ بحثًا عن هذه الضَّالة المنشودة المدعو.

 

منها مَنِ التزم، وتاب على يد شيخٍ دَعاهم في مرقص، وكان قبل لقاء هذا الشيخ من أفسقِ الفُسَّاق؛ حيثُ استأجر الشيخ المرقص من صاحبه زمن الحفلة، ودعا الحضور للتوبة، وخرجوا جميعًا من المرقص تائبين، وكانت توبتهم على يده، حتَّى صاحبَ المرقص تاب وندم على ما كان منه.

 

نختم بذكر ما قاله الدكتور عبدالودود شلبي في كتابه في مَحكمة التاريخ عسى أن يستحي المقصرون منَّا في خدمة دينهم وأُمَّتهم الإسلاميَّة عندما يرون حركة غيرهم في خدمة باطلهم، ويرون - أي: المقصرون - أنفسهم أحرى وأَجْدَر بمعالي الأمور: أذكر أنني ترددت كثيرًا جدًّا على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد، وفي فناء المبنى الواسع وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها:

أيها المبشر الشاب، نحن لا نَعِدُك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير، إننا ننذرك بأنَّك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض، كل ما نقدمه إليك هو العلم والخبز وفراش خشن في كوخ فقير، أجرك كله ستجده عند الله، إذا أدركك الموت وأنت في طريق المسيح، كنت من السُّعداء.

 

تأمل هذه الكلمة:

أجرك كله ستجده عند الله، إذا أدركك الموت، نحن أَوْلَى بهذه الكلمة منهم.

 

نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا هداة مهتدين.

 

المراجع:

1- صحيح مسلم بشرح النووي، المجلد الأول، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2- رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لفضيلة الشيخ د. ياسر برهامى، وهو من أبرز الدعاة بالإسكندرية - مصر، وحاصل على ليسانس الشريعة الإسلامية - جامعة الأزهر.

3- كتاب علو الهمة، لفضيلة الشيخ د. محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم، وهو من أبرز الدعاة بالإسكندرية - مصر وحاصل على ليسانس الشريعة الإسلامية - جامعة الأزهر، دراسات عليا في الطب النفسي.


"
شارك المقالة:
162 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook