آيات منيرة في أحداث السيرة (3)

الكاتب: المدير -
آيات منيرة في أحداث السيرة (3)
"أولئك الذين هَدَى الله (2) أبو بكر الصديق والرسول صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: ? إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ? [التوبة : 40].   عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: نظرتُ إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلتُ: يا رسول الله، لو أن أحدَهم نظر إلى قدمه أبصَرَنا، فقال: ((يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثهما))[1].   هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، أول مَن استجاب لدعوة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم مِن الرجال، فكان أول مَن صدَّقه، وكيف لا يصدِّقه وما جرَّب عليه كذبًا؟ كيف لا يصدِّقه وهو يعلم أنه أهل للرسالة، وحمل الأمانة؟   قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما دعوتُ أحدًا إلى الإسلام، إلا كانت منه عنده كبوة، ونظر وتردد، إلا ما كان مِن أبي بكر ما عَكَمَ عنه[2] حين ذكرتُه له، وما تردد فيه[3].   جعل الصديق رضي الله عنه ماله في سبيل الله، يقدِّمه لمن يرى أنه بحاجة إليه مِن المسلمين، ويَشتري مَن يُسلِم مِن الأرِقَّاء، ثم يعتق مَن اشترى، وكان رضي الله عنه رجلًا بكَّاءً، إذا قرأ القرآن استبكى.   وهو في موقفه العظيم عندما أتى إليه المشركون ليخبروه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذهب إلى بيت المقدس، وصلَّى فيه ثم رجع، فكان ردُّه القوي: واللهِ لئن كان قاله لقد صدق، ولذلك سُمِّي الصديق.   وهذا يدل على رسوخ الإيمان، وقوة اليقين، وشجاعة بالحق، واستنارة بالفكر، واستعلاء بعقيدته، وها هو يَخرج مهاجرًا في صُحبة حبيبه صلَّى الله عليه وسلَّم، متحمِّلًا عناء الطريق، حاملًا في هَمِّه ألا يصل لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أذًى، فسارا وانطلقا متوجِّهَين إلى المدينة.   وكان الصديق رضي الله عنه أثناء الهجرة يَسير أمام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليردَّ عنه خطرَ الطريق، فإذا تخيل الطالبَ مِن الوراء رجَع وسار خلْفَه، وهكذا طول الطريق خوفًا على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وحماية له، ولما وصَلا إلى المدينة استقبلَهما الأنصار، ومَن هاجر قبل الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم.   ولقد آخَى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بين أبي بكر وعمر، فرآهما يومًا مُقبلَين، فقال: إن هذين لَسَيِّدَا كهولِ أهلِ الجَنَّة مِن الأولين والآخرين؛ كهولهم وشبابهم، إلا النبيِّين والمرسلين[4].   لم يُشارِكْ أبو بكر رضي الله عنه في أيٍّ مِن السرايا التي لم يخرج فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ رغبةً مِن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في إبقائه إلى جانبه، وحُبًّا مِن أبي بكر بالبقاء بالقرب مِن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ يسمع منه ويتأدب، ويتعلم ما يأتي به الوحي لرسول الله، غير أنه كان يَنطلق مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الغزوات التي يَسير فيها.   بعد أن أَظهَر اللهُ دِينَه، وانتَصَر المسلمون في بدر نصرًا مؤزَّرًا، وتتابعَت الانتصارات - أراد رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يَتوجَّه إلى مكة، فأبى عليه المشركون دخولها؛ حتى تمَّ صُلح الحديبية، والذي كَرِهَهُ كثيرٌ مِن المسلمين، وعلى رأسهم عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه؛ فوثب إلى أبي بكر، فقال له يا أبا بكر: أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أوَلسنا مسلمين؟ قال: بلى، قال: أوَليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نعطي الدَّنيَّة في ديننا؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: يا عمر، الْزم غَرْزَه، فإني أشهد أنه رسول الله.   وفي غزوة تبوك دفع رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم رايتَه العُظْمى إلى أبي بكر رضي الله عنه، وكانت سوداء، وكان ذلك في شهر رجب من السَّنَة التاسعة للهجرة، ثم بَعث رسول اللهُ صلَّى الله عليه وسلَّم أبا بكر رضي الله عنه أميرًا على الحجِّ في السَّنَة التاسعة؛ ليقيم للمسلمين حِجَّهم، والناس مِن أهل الشرك على منازلهم مِن حجهم، فخرج أبو بكر رضي الله عنه ومَن معه مِن المسلمين، فأقام أبو بكر للناس الحج.   وهكذا عاش أبو بكر راضيًا مرضيًّا في صحبة حبيبه صلَّى الله عليه وسلَّم، فالصدِّيق أعظم المسلمين بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو صاحبه، وصديقه، وخليله، وخليفته، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ مِن أَمَنِّ الناسِ عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنتُ متخذًا خليلًا لاتخذتُ أبا بكر إلا خلة الإسلام، لا يبقينَّ في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر))[5].   وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بَعثَهُ على جيشِ ذات السلاسل، فأتيتُه فقلتُ: أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: ((عائشةُ))، فقلتُ: مِن الرجال؟ قال: ((أبوها))، قلتُ: ثُمَّ من؟ قال: ((عمر بن الخطاب))؛ فعَدَّ رجالًا[6].   وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن أصبح منكم اليوم صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمَن تبع منكم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((مَن أَطعَم منكم مسكينًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((مَن عاد منكم مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما اجتَمَعْنَ في امرئ إلا دخل الجنة))[7].   وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((لا ينبغي لقومٍ فيهم أبو بكر أن يؤمَّهم غيرُه))[8].   ولما ثقل برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في مرض موته، أمَر أبا بكر أن يصلِّي بالناس، فلما توفِّي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ارتدَّ كثير ممن أسلموا في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ووقف بعضُ الصحابة موقفَ غيرِ المصدق، وأولهم عمر بن الخطاب، فكان موقف أبي بكر رضي الله عنه شجاعًا، وضُح فيه علمُه واتزانُه، فصعد المنبر فقال: أيها الناس، إنه مَن كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: ? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ? [آل عمران : 144]، قال عمر رضي الله عنه: والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر تلاها، فعقرتُ؛ (أي: دهشتُ)، حتى وقعتُ إلى الأرض ما تحملني رجْلاي، وعرفتُ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد مات[9].   وبعد وفاة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بايَعَ المسلمون أبا بكر رضي الله عنه، وأصبح خليفة المسلمين بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتولَّى رضي الله عنه الخلافة مقتديًا برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، متمسِّكًا بكتاب الله، ملتزمًا بسُنَّة نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم، ورغم قِصَر مدة خلافته، إلا أنها كانت مليئة بالأعمال والمواقف الجليلة، وفيها العِبر والحِكَم من الأفعال التي قام بها، التي جعلتْه أنموذجًا يَقتدِي به كلُّ حاكم عادل، وكل سلطان قوي، وكل إمام يعمل لصالح أُمَّته وخير دينه، فرضي الله عن أبي بكر الصديق، وعن الصحابة أجمعين، والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.     [1] متفق عليه. [2] ما عكم عنه: ما تأخر عنه. [3] سيرة ابن هشام. [4] طبقات ابن سعد، وفي بعض السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين أبي بكر، وبين خارجة بن زيد بن أبي زهير. [5] متفق عليه. [6] متفق عليه. [7] رواه مسلم. [8] رواه الترمذي، وقال: حديث غريب. [9] سيرة ابن هشام. "
شارك المقالة:
139 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook