الحمدُ الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين:
وبعدُ:
مما منَّ الله به على جيل الصحْوة في العقود الأخيرة: أن هيَّأَ لهم ثُلَّة منَ العلماء والدعاة والمربِّين، قاموا على تعْلِيمهم وترْبيتهم ورِعايتهم، وأعطوهم اهتمامًا كبيرًا، كاهتِمام الأب بأبنائِه، وقاموا برعايتهم علْميًّا ودَعَويًّا وفِكْريًّا، بل وربما اجتماعيًّا، حتى تطوَّرَت العلاقة بين الفريقَيْن (العلماء والشباب)، إلى أن وصل ببعض العلماء أن يهتمَّ بالشباب أكثر من اهتمامه بأبنائه من النسَب، كما وصل ببعض الشباب القُرب من العلماء والدعاة أكثر من قُرْبهم من آبائِهم.
وكانتْ هذه العلاقة رائعةً من روائع الأُخُوَّة الإسلامية، والمحبة في الله، ومع زيادة إقبال الشباب على حلقات العُلَماء ومجالس المشايخ ولقاءات المربِّين، ومع الانتشار الأفقي والرأسي للعمل الدعَوي - ازْداد ارْتِباط الجميع بالدَّعوة، حتى عاشوا على أنها قضيتهم، وأنهم أبناؤها، فأعطوها من جُهُودهم وأوقاتهم الكثير؛ رغبةً وطواعيةً وحبًّا، محْتَسِبين - هكذا نحسبهم والله حسيبهم - فقدَّموا خِدْماتهم بما يَمْلكون من طاقات وقدرات.
وبعد توسُّع العمل والانتقال إلى طَوْر المؤَسَّسيَّة، والتي بدأتْ ثم نسختْ وتكَرَّرَتْ، حتى انتشرتْ في عُمُوم البلاد المؤسَّساتُ الإسلاميَّة العلْميَّة والدعويَّة والاجتماعيَّة، وأصبَحَتْ رقمًا لا يُستَهان به، وحقيقة لا يُمكن تُجاهلها، ونتيجة طبيعية أن يتمَّ اختيار كوادِر تقوم على هذا العمل، وتحقُّق أهدافه، وبِحَمْدِ الله كانت الساحةُ مليئةً بعددٍ من الكوادر التي قضيَّتها وهمُّها الدعوة إلى الله، ومما لا شك فيه أنَّ استيعاب جميع الكوادِر الموجودة ضرب منَ المستحيل، خاصة مع محدودية الموارد، وكثْرة الكوادر، فلا يُمكن توفير فُرَص عمل لكلِّ مَن يحتاج، غَيْر أن الذي ينْبَغي الاعتراف به هو فضْل هذه المؤسَّسات في تَوْفِيرها فُرَص عمل لعددٍ كبيرٍ مِن شباب الدعوة، لم تَكُن لتَتَوَفَّر لهم بهذه الخصوصيَّة وميزة البيئة والموقع مظنة الأجر.
غير أنَّ الذي لم يكنْ في الحسبان أن يقعَ عتابٌ على القيادات؛ بسبب عدم استيعابِها لجميع الطاقات أو أغلبها، أو على الأقل مَن يرغب، ووصل عند البعض إلى الخِصام والنِّزاع، ومع أنَّ بعضَ المؤسَّسات توَسَّعَت حتى أخذَتْ أكثر مِن حاجتها، وأَوْجَدتْ نوع تَرَف في عدد الموَظَّفين، إلَّا أنَّ استِيعاب كل مَن يرغب في العمل مع عدم الحاجة له شيءٌ لا يُقبَل شرعًا، ولا يصح عقلًا ولا نظامًا، حتى وجد مَن يسعى إلى الحصول على ما لا يستحق، أو ما لا يحتاج دون أيِّ شعور بأن هذا فيه اعتداء على حقوق الآخرين، وقبل ذلك اعتداء على النفْس بما ينحرف بها عنِ الجادَّة والصواب.
والمؤسِف أن يَتَطَوَّر الوضْعُ، فتظهر حالة المَنِّ بالالتزام بطريقة أو بأخرى، تلْميحًا وهو أكثره، أو تصريحًا وهو أقبحه، ويكفي أن نصفه بالحالة، فمنَ الصعب أن نقول: إنها أصبحتْ ظاهرة؛ خاصة مع عدم وجود أيِّ إحصاءات أو دراسات ميدانيَّة وتربوية لهذه الحالة؛ بل ربما حتى مجرد النِّقاش والكلام حولها شيءٌ نادر.
وقد تجد هالة منَ المسوغات والمُبَرِّرات، والتي لا يعني أنها صحيحة، بقدر ما يعني أن الحالة قابلة للانتشار، وَوَسِيلة من وسائل إيقاع النفُوس الضَّعيفَة.
وهذه المُشْكِلة أو الحالة كغيرها إن تُرِكَتْ توسَّعَتْ، وتعمَّقَتْ وتأصَّلَتْ، حتى استحال علاجُها.
وعليه؛ فلا بدَّ من الوقوف عندها ولها؛ لتحجيمها، بل واقتلاعها من بيئة الدعوة إن أمكن، فمِن غير المقبول ترْكُ المُمْكِن والاكتفاء بالمتيَسر، فإن بقاءها والسكوت عنها أو التغاضي غير المبرر يُثمر سوء العلاقة، وزيادة الشقاق، وانتشار التباغُض والتحاسُد، وسوء الظن، ونحوها من أمراض القلوب في الأَوْساط الطاهِرة اعتبارًا، وقد تسوء الحالة حتى يصبح الالتزام شعارًا يرفعه المرءُ، وليس له أيُّ دليل سُلُوكي، أو واقع ملْمُوس.
وحتى تقتربَ الصورة عنها، ويعرف المرء أين موقعه في جملة هذه البليَّة؛ نشير إلى بعض مظاهرها، وما نظنه من أسبابها، وما نقترح أن يكونَ فيه علاجٌ لها، فمِن أهم مظاهرها: الإلحاح في المطالَبة بعمل أو مساعدة، أو توفير حاجات، وكأنها حق يجب على الآخرين الوفاء به، ومنها كثْرة الحديث والتعريض، وقد يقع التصريح في الحديث عن الوضع المعيشي، والسعة التي يتمتع بها بعض المشايخ، والدعاة الكبار، ومقارنته بسوء حالة بعض الشباب وعوزهم، وربما بدون عوز ولا فاقة، ودون النظَر إلى مصادر دخْل المشايخ، وما فضله الله به من سَعة الرِّزق، وكأن الواجب على الشيخ والمربِّي أن ينفقَ ماله الخاص على طلَّابِه وأفراده، وأخطر مظْهر لهذه الحالة أن يقومَ الشابُّ بالحديث المكرر في مناسبةٍ وغير مناسبة عن جهوده وأنشطته، وسنوات ارتباطه بالدعوة والمشايخ، مع التأسُّف على أنه لم يحصلْ على أي مقابل مادِّيٍّ أو تعيين وظيفي، مثلما حصل لأقارنِه، بل لِمن هم أقل منه، ويتحول التزامُه إلى مجال للمزايَدة والمُبَاهَاة.
ولعل أهم أسباب هذه الحالة - من وجهة نظر خاصة - تختلف من شخص لآخر، ومن منطقة لأخرى، غير أنَّ المؤسف أن نقول: إنه قد يكون من الأسباب وجود نيَّة فاسِدة، أو فيها غبش، ومنها ما يكون بسبب الظروف المعيشيَّة والحالة الاقتِصاديَّة، ولا ننكر أن منها ما يكون بسبب بعض التصرُّفات غير المسؤولة وغير الواعية لبعض القيادات في التعيين والتوزيع، ومنها ما يكون بسبب ضعْف التربية، وخاصة تلك التي تجعل الشاب الملْتَزِم يعيش لآخرته، ويسخِّر دنياه لآخرته، ولا يكون رضاهُ بِمتاع أو مال، وأظنه إجماعًا أن نقول: إنَّ الاستعجال في تصدير البعض، وإعطائهم مكانة أكبر من حقيقتهم، وقبل النضج الدعَوي والتربوي - من أول أسباب هذه المشكلة.
بقي أن اختمَ برسائل عاجلة فيها إشارات علاجية لِمن ابتليَ بهذا المرض، أو لمن يعرف منهم أحدًا، فيقدمها له عونًا له على العلاج، وهي:
المسافة بين الالتزام الحقيقي أو القوي، وبين الالتزام غير الحقيقي أو الضعيف - هي تلك المسافة بين المبادئ والمواقف، أو بين المبادئ والسلوك.
تخيل نفسك بدون الالتزام والارتباط بالدعوة والمشايخ، ماذا عسى أن تكون؟
فاعرفْ قدر النِّعمة، واعْرف فضْل من كان سببًا فيما أنت فيه من الخير، ومَن كان لك عونًا ودليلًا إلى ربك.
اللهَ المولَى الكريمَ الرحيمَ الغفورَ أسألُ أن يوفِّقنا لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، وأن يصلحَ لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا، وأن يثبِّتَنَا على الحقِّ، ويعيننا على القيام به.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.