"دروس من غزوة تبوك (1) كانتْ غزوة تبوك[1] في شهر رجب من سَنة تِسع قبل حَجَّة الوداع، بلا خلاف[2]، وهي آخِرُ غزوات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ومِن أهمِّها وأكثرها عددًا؛ ذلك أنَّ السرايا التي كان يبعثُها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الجِهات والنواحي المختلفة لم تكُن لتستوعبَ المسلمين كلَّهم، وأنَّ الأمَّة المسلمة أُمَّة مجاهدة، لا يُمْكن أن تتوقَّف عن الغزو والجهاد أبدًا، حتى ينتهي الظُّلم مِن على سطح الأرض كلها؛ لذا كان لا بدَّ مِن الإعداد لغزوةٍ تضمُّ المسلمين جميعًا، لكي يَبقَى كلُّ مسلم على استعدادٍ دائمٍ للحركة والانتقال مِن ساحة إلى ساحة، ولكيلَا تَميل النفوسُ إلى الفتور، وترغب في الاستقرار والرخاء[3]. فكانتْ غزوة تبوك التي جمعتْ ذلك العددَ الكبير مِن المسلمين مباركةً، تحقَّقَت فيها سُنَّة الله في أنَّ النصر للتقوى، والعاقبة للمتقين، وهذا ما نستنبطه من نتائجها. كانتِ الدعوة إلى الإسلام هي جوهرَها وهدفَها، فقد نُشِر الإسلامُ بها في شمال البلدان العربية، واستأنس به العَربُ في هذه الأقاليم، وأخَذَ يَنتشِر في الشام ذاته، مما كان تمهيدًا للفتوحات الإسلامية، وهذا الذي حَدَث في فترة الخلفاء الراشدين الذين فتحوا تلك البلادَ، ونشَروا الدعوة الإسلاميَّة في الجزيرة العربية إلى تُخُوم الشام، فحقَّقوا فتحًا باهرًا، وسلطانًا عزيزًا، وأعلامًا مرفوعة منشورة في رُبوع الأرض. هذا هو سبب غزوة تبوك: نَشْر الدعوة الإسلامية، وردُّ اعتداء المعتدين، أمَّا ما ذَكَرَهُ بعضُ أهل المغازي من أنَّ سببها تسهيل طريق التجارة، فما كانت غزوات الحبيب الأكرم، والقائد الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لِتسهيلِ طريق تجارة مادية، إنما كان قتالُه في الغزوات والسرايا لتسهيلِ طريق الدعوة الإسلامية، وإخراجِ العباد مِن ظُلم الشِّرْك إلى نور التوحيد، ومِن اتِّباع الهوى والضلال إلى اتِّباع الهدى والحقِّ، هذه هي التجارة التي سهَّل النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم طريقَها، وهي تجارة لن تبور، وفيها رِضَى اللهِ تعالى وتقدَّس. ولذلك فإنَّ الرومان بعد سريَّة مؤتة قد رأَوْا أنَّ الدعوة الإسلامية، ودِينَ الإسلام يَنتشِر في الناسِ انتشارَ النار في الهشيم، وأصبحتْ أحكامُه وشرائعه تغزو البلاد والعباد، ففكَّروا في خطَّة للقضاء على الدِّين الجديد، والحَدِّ مِن مَدِّ انتشار الدعوة الإسلامية، فأعَدُّوا العُدَّة للقضاء على الإسلام، فلمَّا وصل خبرُ استعدادِهم إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ما كان لِيتركَهم حتى يَغزوَه في عقر داره؛ بل أعدَّ العُدَّة، وحثَّ وحضَّ على المُضيِّ في سبيل الله، والبذْل لمواجهة هذه الجموع من الأعداء. فاستجاب الصحابة رضي الله عنهم للنداء، وخرجوا خِفافًا وثِقالًا، فلما انتهى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى تبوك، أتاه يُحَنَّه صاحب أيلة[4]، فصَالَح رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء[5] وأذرُح[6]، فأعطَوْه الجزية، وكتب لهم صلَّى الله عليه وسلَّم كتابًا - وهو عندهم - وكتب ليُحنَّه بالمصالحة [7]. وبعدما أرْسى سيِّدُ الوجودِ صلَّى الله عليه وسلَّم قواعدَ الإسلام في تلك النواحي، وبسَط هيبةَ دولة الإسلام، وأخضع لها مَن هناك؛ عربًا ونصارى ويهودًا، قَفَل - بعناية الله - عزيزًا منصورًا، ومؤيَّدًا بعد أن أقام بِضع عشرة ليلة بتبوك، وكان يَقصُر الصلاة فيها، وقد جَعَل مِن المدينة إلى تبوك في طريقه مساجدَ يُقيم فيها شعيرةَ الصلاة، وقد بلغ عددُها خمسةَ عشرَ مسجدًا. لقد حقَّق الله تعالى لِنبيِّه وصفْوة خَلْقه النصرَ المبين، دون حرْب وقتال، ومواجهةِ تلك البقاع من اليهود والنصارى، ودون غدْرٍ ولا خيانة منهم، وعامَلَهم بما يستحقُّونه على هُدَى الله ووحيه، ولم يُكرهْهم على الدخول في الدِّين، بل قَبِل منهم الجزية وأقرَّهم آمنين، ومَن غَدَر وخان نال عقوبتَه دون هوادة ولا تقصير؛ ليكونَ عِبرةً للمعتبِرين. لقد كانتْ غزوة تبوك شاقَّة، ولكنَّها في غاية النفع والإفادة، وتطهير المجتمع مِن داخله، وإقرار هيبته وتأمينه من خارجه، ولقد كانتْ محطَّة متميِّزة على طريق الإسلام الطويل، ولهذا احتلَّت مكانةً مرموقة في آيِ الْكتاب العزيز، ونصوص السُّنَّة، وكتب السير، وأحكام الفِقه والتشريع. وستبقى مَعِينًا ثرًّا لِمَن يطلب الحقَّ، ويسلك طريقَ السواء[8]. ـــــــــــــــــــــ [1] انظر أحداثها بتفصيل في: عيون الأثر؛ لابن سيد الناس (2/277 – 284)، مغازي ابن عقبة (ص: 294 -306)، أنساب الأشراف؛ للبلاذري (1/368)، غزوات الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ابن كثير (379 -391). [2] فتح الباري؛ (7/720). [3] التاريخ الإسلامي؛ محمود شاكر (2/252). [4] أيلة: مدينة على ساحل بحر القُلزُم مما يلي الشام، وقيل: هي آخِر الحجاز وأول الشام؛ معجم البلدان، باب الهمزة والياء وما يليهما، حرف الهمزة. [5] الجرباءُ: كأنه تأنيث الأجرب، موضع من أعمال عمَان بالبلقاءِ من أرض الشام، قُرْب جبال السراة من ناحية الحجاز، وهي قرية من أذرح؛ معجم البلدان، باب الجيم والراء وما يليهما، حرف الجيم. [6] أذرُحُ: وهو اسم بلد في أطراف الشام من أعمال السراة، ثم من نواحي البلْقاء وعمان، مجاورة لأرض الحجاز؛ معجم البلدان، باب الهمزة والدال وما يليهما، حرف الهمزة. [7] عيون الأثر؛ تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي ببيروت (2/284)، مغازي ابن عقبة (ص: 300). [8] العلاقات الإسلامية النصرانية في العهد النبوي؛ فاروق حمادة (ص: 219). "
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.