النصيحةُ المخلصة من الحقوق التي يَنتظر المسلمُ أن يحصل عليها من الآخَرِين، حين يشعر بحاجته الماسَّة إليها، خاصَّة حين يقع في مَأْزِق، أو يُقبِل على أمر أو شأن لا دِرايةَ له به، أو لا يثق بقدرتِه على التعامُل معه؛ ولذا فإنَّه يَطلبُها أحيانًا، وأحيانًا لا يستطيع طلَبَها، أو يخشى طلبَها في بعض المواطن خجلًا، أو كِبْرًا، أو لغَيرِ ذلك من الأسباب.
وفي المقابل، يُسرِف بعضُ الناس في ممارسة هذا الواجب عليه تُجاهَ الآخرين في كلِّ كبيرة وصغيرة، وقد يتعجَّب لضيق المنصوحين بذلك؛ لأنَّه يثق بأنَّه يُحسِن صُنعًا، وما هؤلاءِ المتبرِّمون بنصحه إلَّا قوم يجهلون.
والحقُّ أنَّ هناك نصوصًا كثيرة جاءت في الشريعة تحثُّ على النصيحة وتوجبها ؛ بل إنَّها رَفعتِ الحرج عن كلٍّ مِن طَلَبِ النُّصح أو إسدائه من الأقلِّ شأنًا إلى الأعظم، ومِن الأعلى إلى الأدنى، مُعتبِرةً أنَّ النُّصح مِن تمام الدِّين، بل هو لبُّ الدين نفسه؛ فعن تميم الداري، قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)) ثلاثًا، قلنا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: ((للهِ، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة، المسلمين وعامَّتِهم))؛ رواه مسلم.
وإذا كان البعضُ يراها تَدَخُّلًا في شؤون الآخرين بغير حق، وإحراجًا لهم، أو انتقاصًا مِن شأنهم، أو إظهارًا لفضْلِ الناصح على المنصوح، فإنَّا نراها - إذا استوفَتْ شرائِطَها - بُرهانَ مَحَبَّة، ودليلَ مودَّة.
كما نتفق مع القائلين عنها:
النصيحة أداةُ إصلاح، وأجرٌ ورباح، وصِدْقٌ وفلاح.
النصيحة باقةُ خير يُهديها الناصح، ونورٌ يتلألأ ليُنيرَ لك الطريق.
فهل بعدَ كلِّ هذا نُفسح للنصيحة مجالًا في صدورنا، ونَعلم أنَّ الناصح ما دَعاه إلى نُصحِنا إلَّا محبتُه وخوفُه علينا.
ولكنْ قبلَ الاستطراد في أمر النصيحة - التي غالبًا ما يفهمها الكثيرون في اتِّجاه واحد، خلافًا للحديث الذي نوَّع فُروعَها؛ لتصبَّ في النهاية في المصبِّ الأعظم، وهو صلاحُ النفس والمجتمع والدِّين - أذكِّر بأنَّ النصيحة في اللُّغة: هي الخلوص والصفاء، ونصحتُ الشيءَ خلَّصته وصفَّيته مِن شوائبه، وضدُّّ النُّصح - وهو إخلاص المشورة - الغِشُّ، أمَّا في الشَّرْع: فمِن معانيها التي ذَكَرها العلماء: أنَّها إرادةُ الخير للمنصوح قولًا وعملًا في دِينه، أو دُنياه، أو كليهما.
ومعنى آخر ذكره العلماء - وأحسبه أجودَ وأعمقَ - هو: أنَّ النصيحةَ هي عنايةُ القلْب بالمنصوح في دِينه ودنياه.
وهذه المعاني ستُساعدُ كثيرًا في فَهْم وإجابة بعضِ التساؤلات التي ستطرَحُ نفسَها بقوَّة في هذا السِّياق، مثل كيف ينصح المرءُ لله وهو ربُّ العالَمين؟ ولماذا كان البدء بالنُّصح لله؟ والانتهاء بالنُّصح للعامَّة؟ وكيف تفاعَلَ الصَّحابةُ مع النصيحة؟ وهل يمكن أن يرفضَ أجلَّاءُ الصحابة النصيحةَ، وإن استوفتْ أغلبَ شرائطها، وجاءت مِن أكثر الناس ورعًا وتقًى، ومِمَّن شهدَ لهم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالفَضْل وبشَّرهم بالجنة؟ وما آثارُ النصح في الأمَّة؟ وكيف نَفيد مِن كلِّ ذلك في حاضرنا ومع مجتمعنا؟
وليس مِن غرضي في هذا المقال أن أتحدَّث عن وجوب النصيحة، أو كونها مندوبةً، أو شرائطها، أو أنسَب الطُّرُق لتغليفها وإهدائها للمنصوح، وإنَّما هي محاولةٌ للإجابة عن الأسئلة التي طرحتُها سلفًا، وأحسب أنَّ الإجابة عنها ستقدِّم لنا نظرةً أكثر جِديَّةً وإيجابيَّة إلى النصيحة.
إنَّ التساؤل الأوَّل: كيف يَنصَح المسلم لله؟ وهو سؤال يسترعي الانتباهَ، ويُحفِّز الحواسَّ جميعًا؛ إذ كيف يمكن للعبد الضعيفِ الحقير الذليل، أن ينصح لله ربِّ العالَمين وهو خالق الكون، ومُدبِّر أمرَه، والمتصرِّف فيه بكامل الحِكمة؟
وإجابة مثل هذا السُّؤال مُهمَّة وضروريَّة جدًّا؛ إذ عليها مَدارُ قَبول الأعمال، وسعادة الدنيا والآخرة، وقد كفانا شُرَّاحُ الحديث - ولله الحمد - المعنى بأيسر العبارات، فالنصح لله: هو اتِّباعُ أمرِه، واجتنابُ نَهيِه.
ولكنَّنا في هذا المقام نحبُّ أن نتوسَّع في معناها؛ لِنَلِجَ منه إلى موضع العظَمة في الحديث، لئلَّا تشتبهَ النصيحةُ بغيرها من المعاني التي لها ذاتُ الدلالة، فمثلًا عرَّف الإمام الخطابيُّ وغيره مِن العلماء النصيحةَ لله بقولٍ أكثرَ تفصيلًا، وأحسن بيانًا، فقالوا: معناها مُنصَرِف إلى الإيمان به، ونفيِ الشَّريك عنه، وترْك الإلحاد وصفاته، ووصْفه بصِفات الكمال والجلال كلِّها، وتنزيهه عن جميعِ النقائص، والقِيام بطاعته، واجتناب معصيته، والحبِّ فيه، والبغضِ فيه، وموالاةِ مَن أطاعه، ومعاداةِ مَن عصاه، وجهادِ مَن كفر به، والاعتراف بنعمته، والشُّكر عليها، والإخلاص في جميع الأمور...
ثم قال الخطابي مُعَلِّقًا: وحقيقةُ هذه الأوصاف راجعةٌ إلى العبد في نُصْحِه نفسَه، فإنَّ الله - سبحانه - غنيٌّ عن نُصْح الناصح.
ومهما قلْنا في أهمية النصيحة وفائدتها، فإنَّنا لا يمكن أن ننكرَ أبدًا أنَّها كثيرًا ما تكون ثقيلةَ الوطءِ على المنصوح، وإن كانت لمصلحته ومنفعته؛ لأنَّ فيها - في غالب الأحيان - ملاحظةً لقصوره في جانبٍ من الجوانب، أو إلقاءً لاتِّهام بخطأ - لم يُراعِ الناصحُ دوافعَه وظروفَه وملابساته - قبل إلقائه.
وعن طبيعةِ تفاعُلِ الصحابة مع النصيحة، وإمكانية رَفْضِها من أجلَّاء الصحابة، وإن استوفتْ أغلبَ شرائطها، وجاءتْ مِن أكثر الناس ورعًا وتقًى، وممَّن شَهد لهم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالفضل وبشَّرهم بالجنة.
فيكفي هنا أن نَذكُر ذلك النموذجَ الفذَّ، الذي تذكره لنا كتبُ السيرة، ونرى فيه عظَمةَ الناصح، والمنصوح أعظم منه، وأدرَى بمحلِّ النصيحة، وكيف اختلفَا واتَّفقَا، ثم كان الانتصارُ للحقِّ قبلَ أيِّ شيء، وفوقَ كلِّ اعتبار.
إنَّه موقفُ الخليفة أبي بكر الصِّديق حين تُوفِّي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وارتدَّ مَن ارتد مِن العرب، زاعمين أنَّ الزكاة كانوا يؤدُّونها لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد مات رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعزَم أبو بكر على قتالهم دون مشورةِ الصحابة؛ ليُعيدَ المرتدين إلى حظيرة الإسلام بإرادة أَصْلبَ مِن شُمِّ الجبال، فتَشاورَ الصحابة، ورأوا أنَّ أبا بكر يوشكُ أن يُغامِرَ بالبقية الباقية مِن المسلمين في المدينة لحرْب قبائل العرب التي ارتدَّت، والتي تَفوقُهم عددًا وعُدَّة فيما يُشبه الانتحار، وكان مِن نتائج ذلك أن ذَهَب إليه الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكان أحبَّ الناس إلى قلْب أبي بكر بعد النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال: كيف تقاتل الناس وقد قالوا: لا إلهَ إلَّا الله، وقد قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أُمرِتُ أن أقاتلَ الناس حتى يقولوا: لا إله إلَّا الله.... )) الحديث، فقال أبو بكر - وقد اشتد غضبه -: إلَّا بحقِّها، يا عمرُ.
فيقول عمر: فهل تُقاتِل العربَ جميعًا؟! فيقول أبو بكر بحزم، ناصحًا لله ورافضًا لإشفاق عمرَ عليه، أو على المسلمين مِن جموع المُرتدِّين المُتكاثِرة: أينقص الدِّين وأنا حيٌّ، والله لو منعوني عَناقًا - وفي رواية: عِقالًا- كانوا يُؤدُّونه إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَقاتلتُهم على مَنْعِه.
ثم قال في تقريعٍ لا مكانَ بعدَه لِجِدالٍ أو نقاش للفاروق عمر: أجبَّارٌ في الجاهليَّة خوَّارٌ في الإسلام يا عمر؟! واللهِ لو ظننتُ أنَّ الطير تَخَطَّفني لقاتلتُهم وحْدي.
وهنا نرى عجبًا، إنَّ محبَّة أبي بكر لِعُمَرَ لمْ تمنعْه أنُ يقول ما قال، ولم تَمنعْه مكانةُ عُمر في الإسلام، ولا سَبْقُه، ولا كونُه الفاروق، وما أدراك ما الفاروق؟! الذي شَهِد النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بفضلِه، وبشَّره بالجنة، وقال: ((لوكان بعدي نبيٌّ لكانَ عُمر))، وقال: ((إنَّ الحقَّ على لسان عُمر وقلْبِه))، والذي وافقَ القرآنُ قولَه في عدَّة مواضعَ.
بل والأعجبُ أن يَقْبَل عُمَرُ مِن أبي بكر ذلك، وينشرح صدرُه لقتال المرتدين، ولم تأخذْه العِزَّة برأيه، ويقول: كيف تقول لي هذا وأنا مَن يعلم الجميعُ قدري، وأنت أوَّلُهم يا أبا بكر؟!
لم يقلْ عمرُ هذا ولا غيره، بل انضوَى تحتَ لواء هذا الرأي، وثبَّته وآزره أعظمَ المؤازرة.
أمرٌ آخر يظهر لنا في قول أبي بكر لِعُمر، وهو أنَّ أبا بكر حفَّز همَّة عُمرَ بأقسى الكلمات، جبَّارٌ وخوَّار، وكأنَّه يقول له: كيف تقول ما قلتَ يا عُمر، وأنتَ مَن كنتَ لا تهاب أحدًا في الجاهلية، وليس لك مُعين إلَّا قوّتك، ومِن ورائها عشيرتُك، فكيف الحال بعد أن صار الله معنا وناصِرَنا؟! أتكون بعضلاتك جبَّارًا وأنت وحدَك، وحين يُكرمنا الله بالإسلام، ونَسْتلِهم منه العزَّة والنُّصْرة تخاف الناس وتخشاهم؟!
ورغم قسوةِ الكلمات إلَّا أنَّ تَفتُّحَ قلْب عُمر للحق، جعله يرى مواطنَ الحقِّ والحِكمة والعظمة فيها، ويَرى فيها - ونرى معه - أنَّ أبا بكر لم ينصحْ لله فقط مثل هذا النصح، بل إنَّه نَصَح لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين - أي: نفسه هنا - وعامَّتِهم، فيما قال وفعل.
وانظر إلى إخلاص أبي بكر في نُصْحِه كيف كان له أعظم الأثرِ في نفوس الصحابة، إذ تنشرح نفوسُ جميع الصَّحابة بعدئذٍ للقتال، ليس ذلك فقط، وإنَّما أيضًا تفيض حماستُها وتتدفَّق، حتى أعادتِ الجزيرةَ كلَّها لحظيرة الإسلام، كما كانتْ في عهد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم يمنُّ الله بفضله ويَزيد، فهذا سُهيلُ بن عمرو الذي عقد مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - صُلحَ الحديبية، واغتاظ منه عُمر بن الخطاب يومئذ، وودَّ لو ينزع ثنيتَيه حتى لا يقوم خطيبًا في قريش ثانية، حيث كان يُحرِّضهم على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمسلمين، فيقول له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ببصيرة الوحي الذي لا ينطق عن الهوى: ((لعلَّه يقف يا عمر موقفًا تحمدُه عليه)).
فإذا بأهل مكَّة حين ارتدَّتِ العربُ تريد أن تُتابِعَهم على الرِّدَّة، فيقوم سهيلٌ خطيبًا فيهم، وكان ما قاله - ممَّا تعجز السيوف عن فِعْله -: ""يا أهلَ مكَّة، كنتم آخِرَ الناس إسلامًا، فلا تكونوا أوَّلَ مَن نكث وبدَّل""، فإذا بكلماته المخلِصة، ونصيحتِه الرائعة تُثبِّتُ الناسَ على دِينهم، فلم يُغيِّروا، أو يُبدِّلوا، ويعلم عمرُ والمسلمون بذلك، فيَحمدون الله مُمْتنِّين لسهيل ومقالته.
ولكن هل يمكن أن يتكرَّر مثلُ ذلك في عصرنا، أحْسبُ أنَّه يمكن إن صحَّ العزم، وصدقتِ النوايا، وكلٌّ منَّا أدرى بقدراته وإمكاناته التي وهَبهَا الله له، ويُمكنه أن ينصحَ بها لله، وينفع بها الإسلام والأمَّة، وقد حَدَث بالفعل منذ مدَّة، وهي قصَّة وصلتْني على البريد الإلكتروني، ولعلَّ الكثيرين قرؤوها، ولكنَّها تُمثِّل دلالة مهمَّة وجوهريَّة في موضوعنا؛ ولذا أذكرها هنا:
ركب الشابُّ محمدٌ مِن المحطَّة القريبة مِن منزله، يريد التنزُّه في إحدى حدائق مدينة لندن، وبعد أن دَفَع للسائق، وأخذ الباقي، اتَّجه إلى كرسي فارِغ في آخر الأتوبيس، ثم عدَّ ما أعطاه السائق، فوجد أنَّ السائق أخطأ وأعطاه خمسةَ عشر فِلسًا زائدة على حقِّه، فأراد أن يقومَ ويُعيدها إليه، لكنَّه فكَّر، وقال لنفسه: إنَّه مبلغ تافهٌ زهيد لا يستحقُّ أن أقومَ مِن مكاني لأجله، فمكث مكانَه ولم يقم، وحين وصل الأتوبيس إلى الحديقة، واقترب محمدٌ مِن سُلَّم النزول وجد نفسَه يخرج الخمسةَ عشر فلسًا، ويُقدِّمها للسائق قائلًا: إنَّها زيادة، يبدو أنَّك أخطأتَ في الحساب، فرد عليه السائق قائلًا: شكرًا لك، ألستَ أنتَ إمامَ المسجد الجديد في منطقتنا؟! لقد أحببتُ أن أختبِرَك قبلَ أن آتيَك أنا وأُسرتي لنسألَك عن الإسلام.
نزل محمدٌ مِن الأتوبيس وتنفَّس نفسًا طويلًا، ثم قال: الحمد لله، كنتُ سأبيعُ الإسلام بخمسةَ عشرَ فِلسًا.
وهكذا يتبيَّن لنا كيف يمكن لكلٍّ منَّا أن يكون له دورٌ في حدود إمكاناته وقدراته لخِدمة الإسلام، والحِفاظ عليه، والارْتقاء بأمَّته، ولا يقولنَّ أحدٌ: وماذا أفعل أنا؟ وما قيمتي ووزني في المجتمع، وأنا لست مثل فلان الداعية، ولا فلان القائد العسكري، ولا...؟ لأنَّ النُّصح للإسلام لا يقتصر على الدُّعاة والمجاهدين في ميدان المعركة والقادة السياسيِّين، وإنَّما يستطيع كلٌّ منَّا أن يكون ناصحًا للإسلام، إذا أحسَن دورَه في الموقع الذي يتواجدُ فيه، إن كان طالبًا، أو عاملًا، أو ما شاء الله له أن يكونَ فيه من المواقع.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.