"التخطيط الشخصي في السيرة (تشخيص عام للحالة التي سبقت إعلان الدعوة) إن التخطيط الإستراتيجي الشخصي ليس وليد الزمن الحالي، بل هو قديم، تختلف أسماؤه من عصر لآخر، ولكن تتشابه أركانه، وتتعدد وسائله، وتلتقي نتائجه، ومن أهم معالم التخطيط المميز: توافر المعلومات الدقيقة ذات الجودة العالية من حيث الكم والنوع والوقت، التي يتحصل عليها، وهو ما فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم. وإن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم مليئة بمواقف تدل على حسن التخطيط والتدبير؛ فلعل أروع خطة في التخفي من العدو الطالب، والقدرة في التغلب على كل المصاعب، والوصول للهدف الذي أنت له طالب، لا تحتاج إلا لعقلٍ ورأيٍ صائب[1]. والتخطيط في مفهومه العام وسيلة لتحقيق الرسالة المنشودة، من خلال تحديد الأهداف التي نسعى لتحقيقها ضمن البرامج المعدة لذلك، ويكون مبنيًّا على التنبؤ بالمستقبل على وجه التقدير، لا على وجه الجزم؛ لأن المستقبل أمر غيبي لا يعلمه إلا الله. تشخيص عام للحالة التي سبقت إعلان الدعوة (البيئة الداخلية: نقاط القوة والضعف): ويشمل: • تحديد الحالة التي كانت موجودة في تلك الفترة. • توضيح بعض نقاط القوة في تلك المرحلة. • توضيح بعض ما اعترى تلك المرحلة من ضعف. • تلخيص الحالة. تحديد الحالة التي كانت موجودة في تلك الفترة: كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم في تلك المرحلة أربعين عامًا، مما يشير إلى حسن تفكير الرجال في هذا السن، ورزانة عقولهم، وحكمتهم؛ قال تعالى: ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ? [الأحقاف: 15]، وهذا يدفعك إلى البدء الفوري بإعداد خطتك الإستراتيجية من الآن؛ لتتمكن من خلالها من تحقيق أهدافك التي توصلك لرسالتك. إشارة: بلوغ سن الأربعين يعني جني ثمار التخطيط، مع احتمالية إجراء بعض التعديلات البسيطة التي لا تؤثر على جوهرها. ثم إن السرية بالتخطيط بداية هي أحد أسباب نجاحه، بحيث لا يطلع على خطتك الكاملة سواك، حتى تكتمل، وهذا ما يؤيده حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان))[2]، وكذلك عنصر المفاجأة قوله صلى الله عليه وسلم: ((... والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))[3]. والسِّرِّية في بداية الدعوة كانت لضرورة فرضها الواقع، فكانت سمة السرية التامة، وعدم الحديث بها، إلا لمن غلب على ظن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهل للسر، ودليل ذلك لما رأى علي بن أبي طالب، وهو غلام، النبي صلى الله عليه وسلم وأمنا خديجة رضي الله عنها يصليان، فقال: يا محمد، ما هذا؟ قال: ((دين الله الذي اصطفى لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وأن تكفر باللات والعزى))، فقال علي: هذا أمرٌ لم أسمع به قبل اليوم، فلستُ بقاضٍ أمرًا حتى أحدث به أبا طالب، فكره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا علي، إذ لم تسلم فاكتم..))[4]. ثم كانت دعوته صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصِّدِّيق؛ إذ إن أبا بكر كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان يعلم من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته وحسن سجيته وكرم أخلاقه ما يمنعه من الكذب على الخلق، فكيف يكذب على الله؟ فأسلم معه وصدقه. وصار على نفس السجية أبو بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - في الدعوة، فجعل لما أسلم يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثِق به من قومه، ممن يغشاه، ويجلس إليه..[5]. إشارة: أهمية التركيز في التخطيط، وعدم التخبط والتعجل؛ فمن تعجَّل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه، والبحث عن الوسائل والبدائل في ذات الوقت لإعداد خطة إستراتيجية محكَمة تكون أساس نجاح تلك الخطة. إن الحالة التي تزامنت مع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الفترة، صاحَبَها سرية تامة، استمرت ثلاث سنوات، وقد اعتبرتها بمثابة الخطة الإستراتيجية القصيرة المدى؛ إذ إن الأمر بالنسبة لقريش وسواهم من المشركين محدَث، ويخالف ما عرف بداهة، وهذا ما تلمسه عند من وضع خطته الإستراتيجية المكتوبة، فكثير من أقرانه يتعجبون من ذلك، ولا يجدون مبررًا له، بينما هو عاكف على أمره، يرسم ويخطط ويجتهد في تحقيق أحلامه واحدًا تلو الآخر، حتى يقول له من استهجن أمره بداية: كيف وصلت لهذا؟! ولا شك أن المتابع لسير الدعوة، وللكيفيات التي واجه بها النبي صلى الله عليه وسلم الواقع، وحرَّك بواسطتها الأحداث من حوله - يلاحظ أن خطواته صلى الله عليه وسلم كانت مضبوطة ومنسقة ومدروسة، لا مكان فيها للعفوية والارتجال وسوء التقدير؛ لأنها تصدر عن خطة عمل محدودة الأهداف والوسائل الإجرائية، على ضوء إحاطته التامة بالواقع، وتقديره لموقف البيئة المحيطة بالدعوة[6]. إشارة: من الأهمية بمكان: المحافظة على سرية تخطيطك؛ لأن كثيرًا من النجاحات التي تتحقق في مجالات مختلفة في الحياة مردها السرية، وعدم نشر كافة عناصر خطتك، مما قد يؤثر سلبًا على مسار تنفيذها، وتأخر تحقيقها؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعلن عمن أسلم معه، سوى عن زوجته خديجة بن خويلد، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهذا يدل على إعداد خطة محكمة، بهدوء ودراسة. [1] من مقال (التخطيط في الإسلام) للدكتور محمد بن علي شيبان العامري. [2] الألباني، محمد ناصر الدين، السلسلة الصحيحة، الرياض، مكتبة المعارف، 1425هـ 2004م، ص 54 رقم 257. [3] البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، الرياض، دار السلام، 1419هـ - 1999م، ص 1197 رقم 6943. [4] ابن كثير، إسماعيل، السيرة النبوية، بيروت، دار المعرفة، 1396هـ - 1976م، ج الأول، ص 428. [5] الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، القاهرة، المكتبة التوفيقية، 1422هـ، ج الأول، ص 80. [6] أمحزون، محمد، منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة من خلال السيرة الصحيحة، دار السلام، القاهرة، ط1، 2002م ص110. "
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.