الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
فما أكثر الواعظين بالتقوى! فما عددُ العاملين بها؟ قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: تقوى الله الواعظون بها كثير والعاملون بها قليل.
نسأل الله الكريم أن نكون جميعًا من هؤلاء القليل، فالتقوى لباس ساتر للعبد، بدونه يصير عريانًا؛ قال أبو العتاهية رحمه الله:
إذا أنتَ لم تلبَس لباسًا من التُّقى تقلَّبت عُريانًا وإن كنتَ كاسيَا
فطُوبى لعبدٍ كانت التقوى لباسَه؛ قال عز وجل: ? وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ? [الأعراف: 26]، قال العلامة السعدي رحمه الله: لباس التقوى يستمر مع العبد، ولا يَبلى ولا يَبيد، وهو جمال القلب والروح.
وللسلف أقوال في التقوى جمعت بفضل الله وكرمه بعضًا منها، أسأل الله أن ينفعني والجميع بها.
تعريف التقوى:
قيل لطلق بن حبيب: صف لنا التقوى، فقال: اعمَل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، واترك المعاصي على نور من الله، مخافة عقاب الله عز وجل.
قال الحسن رحمه الله: التقوى ما وقر في القلب، وصدَّقه القول والفعل.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته، واجتناب معاصيه.
قال العلامة العثيمين رحمه الله: التقوى فُسِّرت بعدة تفاسير، وأحسنها أن يقال: إن التقوى اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
تمام التقوى:
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: تمام التقوى أن يتقي الله عز وجل العبد حتى يتقيه في مثل مثقال ذرة، حتى يترك بعضَ ما يرى أنه حلال خشيةَ أن يكون حرامًا، يكون حاجزًا بينه وبين الحرام.
فضيلة التقوى:
قال العلامة السعدي رحمه الله: كل خير في الدنيا والآخرة، فمن آثار التقوى والصبر، وأن عاقبة أهلها أحسن العواقب؛ لقوله: ? قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ? [يوسف: 90].
مراتب التقوى:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: التقوى ثلاث مراتب:
إحداها: حِمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات، الثانية: حميتها عن المكروهات، الثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني، فالأولى تُعطى العبد حياته، والثانية تفيدُهُ صحته وقوته، والثالثة تكسبُهُ سروره وفرحهُ وبهجته.
الزاد الحقيقي: زاد التقوى:
قال العلامة السعدي رحمه الله: الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه، فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة، وأجل نعيم دائمًا أبدًا، ومن ترك هذا الزاد فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين.
تقوى الله والعلم:
قال العلامة السعدي رحمه الله: تقوى الله وسيلة إلى حصول العلم.
التقوى شرف الدنيا والآخرة:
قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: قال بعض الحكماء: ظاهر التقوى شرف الدنيا، وباطنها شرف الآخرة.
التقوى والسعادة والفلاح:
قال العلامة السعدي رحمه الله: امتثال العبد لتقوى ربه عنوان السعادة، وعلامة الفلاح.
وقال: ينبغي الاهتمام بما يجلب السعادة الأبدية، وهو التقوى.
تقوى الله وتقوى الناس:
قال سفيان الثوري: أُوصيك بتقوى الله، فإنك إن أتقيت الله كفاك الناس، وإن اتَّقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئًا، فعليك بتقوى الله.
تقوى الغضب والطمع:
قال بشر بن الحارث الحافي: لا يكون العبد تقيًّا حتى يكون تقي الغضب.
قال بكر بن عبدالله المزني البصري: لا يكون العبد تقيًّا حتى يكون تقيَّ الطمع تقيَّ الغضب.
التقوى والشهوة:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: كل من كان أتقى لله فشهوته أشدُّ؛ لأن الذي لا يتقي يتفرج بالنظر ونحوه.
تقوى الله والرؤيا:
كان الرجل إذا سأل ابن سيرين عن الرؤيا، قال له: اتق الله في اليقظة، لا يضرك ما رأيت في المنام.
المتقون:
قال سفيان بن عيينة: إنما سُمُّوا المتقين؛ لأنهم اتقوا ما لا يُتقى.
قال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين، حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لله ضمن للمتقين أن يجعل لهم مخرجًا مما يضيق على الناس، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، فيدفع عنهم ما يضرهم، ويجلب لهم ما يحتاجون إليه، فإذا لم يحصل ذلك دلَّ على أن في التقوى خللًا، فليستغفر الله وليتب إليه، وقال: من لم يقف عند أمر الله ونهيه، فليس من المتقين.
قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر البراك: المؤمن الصالح التقي يكون مباركًا أينما كان، مباركًا على أهله، مباركًا على أصحابه، لا يُسمع منه إلا القول السديد، ولا يحصل منه إلا الإحسان فتجده، ليس بطعَّانٍ ولا لعَّانٍ، ولا فاحشٍ ولا بذيءٍ، بل هو كريم الأخلاق.
قال العلامة السعدي رحمه الله:
المتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية والآيات الكونية.
أخبر تعالى أنه ? مَعَ الْمُتَّقِينَ ?؛ أي: بالعون والنصر والتأييد والتوفيق، ومن كان الله معه حصل له السعادة الأبدية.
المتقون في أعلى الدرجات، متمتعين بأنواع النعيم والسرور، والبهجة والحبور، والكفار تحتهم في أسفل الدركات، معذبين بأنواع العذاب، والإهانة، والشقاء السرمدي الذي لا منتهى له.
التقوى ومحبة الناس:
قال الإمام ابن عبدالبر رحمه الله: ابن آدم، اتَّقِ الله يحبَّك الناس وإن كرهوا.
أحوال من قيل لهم: اتق الله:
عن يزيد بن كميت، قال: سمعت رجلًا يقول لأبي حنيفة: اتق الله، فانتفض واصفر وأطرق، وقال: جزاك الله خيرًا، ما أحوج الناس كل وقت إلى من يقول لهم مثل هذا!
مالك بن مغول بن عاصم، قال له رجل: اتَّق الله، فوضع خذه بالأرض.
عبدالله بن خالد الكوفي الفقيه، قال له رجل في حكومة: اتقِ الله، فوضع يده على رأسه، وعنَّف نفسه، ووبَّخها.
قال العلامة العثيمين رحمه الله: كان بعض السلف إذا قيل له: اتق الله، ارتعَد، وربما سقط من مخافة الله عز وجل، وأدركنا من الناس من هذه حاله؛ أي: أنك إذا قلت له: اتقِ الله، اضطرب واحمرَّ وجهُه وخشع، والآن بالعكس، إذا قلت له: اتق الله، قال: ماذا فعلت؟ مع أنه منتهكٌ لحرمات الله عز وجل، فالواجب على العبد تقوى الله عز وجل امتثالًا لأمره تعالى.
حال من لم يتَّق الله:
قال العلامة السعدي رحمه الله: من لم يلزم التقوى تخلى عنه وليه، فوكله إلى نفسه، فصار هلاكه أقرب إليه من حبل الوريد.
وقال: ومن لم يتَّق الله، يقع في الآصار والأغلال التي لا يقدر على التخلص منها، والخروج من تبعتها، واعتبر ذلك في الطلاق، فإن العبد إذا لم يتق الله فيه، بل أوقعه على الوجه المحرم، كالثلاث ونحوها، فإنه لا بد أن يندم ندامة لا يتمكن من استدراكها، والخروج منها.
التقوى أفضل زاد:
قال جعفر الصادق: لا زاد أفضل من التقوى.
أصحاب الليل هم أهل التقوى:
قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: صلاة الرجل في جوف الليل هذه من أعظم أبواب الخير، وبها يحصُل للمرء النور في قلبه، وحسن تعامله مع ربه، وخشيته له، والزهد في الدنيا، والرغب في الآخرة، ما لا يدخل تحت وصف - أعاننا الله وجميع المسلمين على ذلك - فإن صلاة الرجل والمرأة في جوف الليل هذه يكون معها التدبر للقرآن، وحسن مناجاة الله، والدمعة التي تسيلُ من خشية الله عز وجل، إذ يكون المرء في ذلك على يقين من أنه إنما قام لله جل جلاله وحده، فتعظم الصلة، ويعظُم التعلق، ويعظُم إخبات القلب، والرجاء، والرهبة، والخوف، ويؤثر القرآن في القلوب تأثيرًا عظيمًا، فأصحاب الليل هم أهل التقوى.
المتقي ميسر عليه أمور دنياه وآخرته:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: المتقي ميسَّر عليه أمور دنياه وآخرته، وتارك التقوى وإن يسرت عليه بعض أمور دنياه، تعسَّر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركَه من التقوى، وأما تيسير ما تيسَّر عليه من أمور الدنيا، فلو اتَّقى الله تعالى لكان تيسيرها عليه أتَمَّ، ولو قُدِّر أنها لم تُيسر له، فقد يسَّر الله له من الدنيا ما هو أنفع له مما ناله بغير التقوى؛ فإن طيب العيش ونعيم القلب ولذة الروح وفرحها وابتهاجها من أعظم نعيم الدنيا، وهو أجلُّ من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذات، ونعيم أهل التقوى بالطاعات والقربات أعظم وأجل.
التقوى ومحاسبة الإنسان نفسه:
قال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيًّا حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك لشريكه.
من منافع التقوى:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: اعلم أن الزمان لا يثبت على حال؛ كما قال عز وجل: ? وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ? [آل عمران: 140]، فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة يفرح الموالي، وتارة يشمت الأعادي، فالسيد من لازم أصلًا واحدًا كل حال، وهو تقوى الله عز وجل، فإنه إن استغنى زانته، وإن افتقر فتحت له أبواب الصبر، وإن عوفي تمت النعمة له، وإن ابتُلي جَمَّلته، ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعِد، أو أعراه، أو أشبعه، أو أجاعه؛ لأن جميع تلك الأشياء تزول وتتغير، والتقوى أصل السلامة حارس لا ينام، يأخذ باليد عند العثرة، فلازِم التقوى في كل حال فإنك لا ترى في الضيق إلا السَّعة، وفي المرض إلا العافية، هذا نقدها العاجل، والآجل معلوم.
قال العلامة السعدي رحمه الله: من اتقى الله حصل أربعة أشياء كلُّ واحد منها خير من الدنيا وما فيها:
الأول: الفرقان، وهو العلم والهدى الذي يفرِّق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل، الثاني والثالث: تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب... الرابع: الأجر العظيم، والثواب الجزيل، لمن اتقاه، وآثر رضاه على هوى نفسه.
وقال: المعونة من الله، تنزل بحسب التقوى، فلازِموا على تقوى الله، يُعنْكم وينصُرْكم على عدوِّكم.
التقوى رأس كل شيء:
قال رجل لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أوصني يا أبا سعيد، قال: عليك بتقوى الله، فإنها رأس كل شيء.
لا ضرر مع التقوى:
قال يحيى بن معين: والله ما ضر رجلًا اتقى الله على ما أصبح وأمسى.
لذة مناجاة الله والتقوى:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: مَن رُزِقَ قلبًا طيبًا ولذة ومناجاة، فليراعِ حاله، وإنما تدوم له حاله بدوام التقوى.
عاجل حسن الجزاء للمتقي:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: لو أن شخصًا ترك معصية الله لأجل الله تعالى لرأى ثمرة ذلك... فيجد من يتقي الله تعالى... حسن الجزاء على التقوى عاجلًا؛ كما في حديث إمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: ((النظر إلى المرأة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه ابتغاء مرضاتي آتيته إيمانًا يجد حلاوته في قلبه)).
التقوى طريق للخلاص من الغموم والهموم:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: ضاق بي أمر أوجب غمًّا لازمًا دائمًا، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل حيلة وبكل وجه، فما رأيت طريقًا للخلاص؛ فعرضت لي هذه الآية: ? وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ? [الطلاق: 2]، فعلِمت أن التقوى سببٌ للمخرج من كل غمٍّ، فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج.
دوام العافية والتقوى:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: من أراد دوام العافية والسلامة فليتقِ الله عز وجل، فالملازم لطريق التقوى لا آفة تَطرُقه، ولا بليَّة تنزل به، هذا هو الأغلب، فإن وُجِدَ مَن تطرُقه البلايا مع التقوى، فذاك في الأغلب لتقدُّم ذنبٍ يُجازى عليه.
التقوى عزٌّ:
قال إبراهيم بن شيبان أبو إسحاق القرميسيني: العز في التقوى.
الصيام من أكبر أسباب التقوى:
قال العلامة السعدي رحمه الله: الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثالَ أمر الله واجتناب نهيه، فمما اشتمل عليه من التقوى... أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.