مقتطفات من أخلاقه وسيرته العطرة صلى الله عليه وسلم

الكاتب: المدير -
مقتطفات من أخلاقه وسيرته العطرة صلى الله عليه وسلم
"الفكر السياسي في عصر النبوة قراءة في منهج المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في بناء الدولة هل يُمكِن أن نُطلِقَ على رسولِنا محمد صلى الله عليه وسلم: مفكِّرًا؟! أو أن نقول بلغة العصر: الفكر السياسي عند محمدٍ - صلى الله عليه وسلم؟!   ربما سارَع الكثيرون في الرفض، معتمِدين على نصوص قرآنية واضحة، من نحوِ قوله - تعالى -: ? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ... ? [آل عمران: 144]، فلا يحقُّ في حقه أن يُوصَف بغير صفةِ التشريف التي ارتضاها له ربُّه.   ولن أكون أوَّلَ المتجرِّئين في وصف نبيِّنا الكريم بالمفكِّر، فهو له خصوصية ارتضاها له ربه، لكنني لا أستطيع أن أُنكِر أن للرسول - صلى الله عليه وسلم - رؤيةً فكرية، يُمكِن من خلالها أن نتعرَّف على سمات الفكر الإسلامي وخصائصه، وفي القضايا السياسية التي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - موجِّهًا ومشرِّعًا لها، ومِن هنا جاز لنا أن نتناولَ الفكر الإسلامي السياسي من خلال تجرِبة النبي المرسَل، وكيف طبَّقها واقعًا في حياة البشر.   • الرسول النبي: قال - تعالى -: ? وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ ? [النجم: 3، 4]، هذه الآية لا يمكن أن تلغي بشرية محمد - صلى الله عليه وسلم - وذاتيته في التفكير، ورؤيته الخاصة [1]، ومن هنا فإن تناول مسيرة النبي الإنسان تسمحُ بأن نتحدَّث عن رؤية فكرية، وتجرِبة ميدانية تؤسِّس لبناء مدرسة فكرية اسمُها: مدرسة محمد بن عبدالله في الفكر والسياسة، ولن يقلِّل كون النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - متلقِّيًا عن ربه أن تُعزَى له الرُّؤى، وتدرس من خلال سيرتِه مبادئُ النظرية السياسية في الإسلام، بل إن هذا سيجعل النظرية أقربَ للتصوُّر المفترض - أصلاً - حول ماهية هذه النظرية؛ أعني: تعانُق الاجتهاد البشري بالشرع الرباني في تشكيل منظومة سياسية قابلة للتطوير.   ولكن علينا أن ننبِّه - مسبقًا - أن المساحة الفكرية التي تتمتَّع بها بشرية النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن تتعارَض مع كونه متلقِّيًا عن ربه؛ فالفكر الذي ينبثق من رؤيته كبشرٍ هو في حد ذاته تشريعٌ موافق لطبيعته الوظيفية، فسلوكُه المنفرد سلوكٌ برعاية الله وبإرادته؛ ومن هنا فلا يتوقَّع منه الخطأ العقدي أو الفكري، ففكره شرع، ورؤيته دين.   وبناءً على هذا التوصيف المنطقي لطبيعة الرسالة التي يحملُها النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - فإن تناول تجرِبة المدينة وَفْق مقتضياتِ العصر تقودُنا إلى معاينةِ نظام سياسي متكامل، أقامه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه في المدينة، نظام جمع بين ناحيتين: مادية وروحية، ثم تداخلت الناحيتانِ تداخلاً مَزْجيًّا ليُصبِحَ التكافل الاجتماعي - في موضوع المؤاخاة مثلاً - مندمجًا مع تكافل روحي رَعَتْه نصوص الشريعة من مثل: ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ رجلاً زار أخًا له في الله، فأرصد الله له ملَكًا، فقال: أين تُريد؟ قال: أُريد أن أزورَ أخي فلانًا، فقال: لحاجةٍ لك عنده؟ قال: لا، قال: لقرابةٍ بيْنك وبينه؟ قال: لا، قال: فبنعمةٍ له عندك؟ قال: لا، قال: فبِمَ؟ قال: أحبُّه في الله، قال: فإنَّ الله أرسلني إليْك يُخبِرُك بأنَّه يحبُّك لحبِّك إيَّاه، وقد أوجب لك الجنَّة)).   وعن أنس بن مالك أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يكرَهَ الرَّجُل أن يعودَ إلى الكفر كما يكره أن يقذفَ في النَّار، وأن يحبَّ العبد لا يحبُّه إلاَّ لله - أو قال: - في الله)).   وعن البراء بن عازبٍ قال: سمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ أفضل الإيمان الحبُّ في الله والبُغْض في الله)).   وعنِ ابن عمر قال: لقد رأيتُنا وما الرَّجل المسلم بأحقَّ بديناره ودرهمِه من أخيه المسلم.   قال رجل لداود الطَّائي: أوْصِني، قال: اصحَبْ أهل التقوى؛ فإنَّهم أيسرُ أهل الدنيا عليك مؤونة، وأكثرهم لك معونة.   وعن أبي عمرٍو العوفي قال: كان يقال: اصحَبْ مَن إن صحِبْتَه زانك، وإن خدمتَه صانك، وإن أصابَتْك خصاصة مانَك، وإن رأى منك حسنةً عدَّها، وإن رأى منك سقطةً سدَّها، وإن قلتَ صدَّق قولك، وإن صُلْت سدَّد صولك.   وزاد غيره: ولا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليك منه الطَّرائق، ومَن إن سألتَه أعطاك، وإن سكتَّ ابتداك، وإن نازعتَه يَذِلُّ لك.   وقال عبدالله بن الحسن: أربعٌ من سعادة المرء: أن تكون زوجتُه صالحة، وأن يكون ولده أبرارًا، وأن تكون معيشتُه في بلده، وإخوانه صالحين.   وقال الحسن: المؤمن مرآةُ أخيه، إن رأى فيه ما لا يُعجِبه سدَّده وقوَّمه، وحاطه وحفِظه في السرِّ والعلانية، إنَّ لك من خليلِك نصيبًا، وإنَّ لك نصيبًا من ذكر مَن أحببت، فثِقوا بالأصحاب والإخوان والمجالس.   فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أقام دولة الإيمان في القلوب، ودولة السياسة في واقع الحياة، من خلال منظومةٍ متكاملة تتحرَّك على الأرض، وتسيِّر أمور الناس، وتحدِّد كافة الأسس والعَلاقات التي تربط وجودهم بما حولهم؛ وفي هذا يقول المستشرق (فتزر جرالد Fitzgerald): ليس الإسلام دينًا فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضًا[2].   ويقول الأستاذ (نللينو) (C.A. Adllino): (لقد أسَّس (محمد) في وقت واحد دينًا (A Relgion) ودولة (A state)، وكانت حدودُهما متطابقةً طوال حياته).   ويقول الدكتور (شاخت) (Dr.schacht): (على أن الإسلام يعني أكثر من الدين، إنه يمثِّل أيضًا نظريات قانونية وسياسية، وجملة القول أنه نظام كامل من الثقافة، يشمل الدين والدولة معًا).   ويقول الأستاذ (ستروثمان) (R.Strothmann): (الإسلام ظاهرة دينية وسياسية؛ إذ إن مؤسِّسه كان نبيًّا وكان سياسيًّا حكيمًا، أو رجل دولة).   ويقول الأستاذ (ماكدونالد) (D.B.Macdonald): (هنا - أي: في المدينة - تكوَّنت الدولة الإسلامية الأولى، ووُضِعت المبادئ الأساسية للقانون الإسلامي).   ويقول السير (توماس آرنولد) (Sir.T.Arnold): (كان النبي في نفس الوقت رئيسًا للدين ورئيسًا للدولة).   ويقول الأستاذ (جب): (عندئذٍ صار واضحًا أن الإسلام لم يكن مجرَّد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل، له أسلوبه المعيَّن في الحكم، وله قوانينه وأنظمته الخاصة به)[3].   ولسنا بحاجةٍ أن نلتفت إلى تلك الأقوال الناشزة التي زعمت أن الإسلام دين لا سياسة فيه، وأن السياسة تناقض أسسه ومبادئه، وأن الرسول كان يحب البساطة ويكره التكلف، وأن منهجه لم يقم على أسس الدولة الحديثة[4].   والحديث عن واقع التجربة السياسية في عصر النبوة لا تنقصه الأدلة، بَيْدَ أننا سنكتفي بالحديث عن وثيقة المدينة التي رتَّبت جملة العَلاقات المشكلة لواقع الحياة في المدينة؛ حيث بدأت دولة الإسلام تبني أركانها، بقيادة النبي الإنسان، وكان في المدينة تعدُّد فكري وعقدي واجتماعي، فما كان من النبي إلا أن وازَن بين هذه التنوعات، وتعامَل معها بواقعية سمحَتْ له بتوقيع اتفاقات، وإبرام عقود، وسنِّ قوانين تحكمُ طبيعة العَلاقة بين هذا المجتمع المتباين.   وقد كان لما تم إنجازه عبر البيعتين الأولى والثانية، أثره الواضح في بناء الأسس التي ستقوم عليها دولة المدينة؛ حيث مثَّلت الهجرة - التي كانت واحدة من أهم منجزات تَيْنك البيعتين - نقطةَ التحوُّل الأساسية لبناء عهد جديد، فمن الناحية الشكلية بدأت تتشكل معالِم الحركة الإسلامية الوليدة؛ حيث تحوَّل مسار هذه الحركة من حركة دعوية سرية - في مكة - إلى حركة تبحث عن موقعية، وتسعى لبناء مجتمع منظَّم، على قواعد سياسية، تحت قيادة محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ يمكن الحديث هنا عن تحول درامتيكي في حياة هذه الجماعة الناشئة، تحوُّل من مثالية التجرِبة النظرية في عرض الفكرة، إلى واقعية التطبيق العملي لها.   والمتابع لسيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يجد أن كلَّ خطوة عملية قام بها النبي المصطفى – صلى الله عليه وسلم - في المدينة مثَّلت قرارًا سياسيًّا أسَّسَ لبناء دولة المؤسسات الحقيقية؛ فبنى المسجد ليكون مقرًّا للفعل السياسي، وكانت المؤاخاة لتحديد مفهوم الأمة والانتماء تحت سقف هذه الدولة الناشئة، ثم ما عُرِف بوثيقة المدينة لتحديدِ مجمل العَلاقات التي ستسود واقع الحياة السياسية في المدينة وما حولها، لكن دولة المدينة كانت مشروعًا عالميًّا لا رؤيةً إقليمية لمكان يسكنُه الرسول ومَن معه من المهاجرين في ضيافة الأنصار، ومن هنا كانت الفتوحات الإسلامية، التي بدأت في المدينة وغَدَت واقعًا مثيرًا للانتباه في عصر الخليفة الثالث عثمان بن عفان؛ حيث وصلت خيول المسلمين أواسط أوروبا وإفريقيا وأعماق آسيا الشرقية.   بَيْد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يُقِيم أركان تلك الدولة كما أراد الله، متلقِّيًا معالِم التكوين من معالِم التنزيل؛ حيث أُمر - صلى الله عليه وسلم - أن يكون حكمًا بين الناس كما يريد الشرع، وأن يبتعد عن الحيف والضيم، قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ... ? [النساء: 58]، وحينما يقف الدارس على تفاصيل وثيقة المدينة يجد نفسه أمام دستورٍ سياسي متكاملِ الأوجه والمواد التفصيلية.   تقول الوثيقة: هذا كتابٌ من محمد النبي رسولِ الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومَن تبعهم ولَحِق بهم وجاهَد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يَفْدون عانيَهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوفٍ على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث بن الخزرج على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجَّار يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النبيت يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيَها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.   وأن المؤمنين لا يتركون مفرحًا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، وألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل مَن بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثمًَا أو عدوانًا أو فسادًا بين المؤمنين، وأن أيديَهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم.   ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.   وأنه من تبعنا من يهود؛ فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وأن سلم المؤمنين واحدة، لا يُسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا، وأن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.   وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وأنه لا يُجِير مشرك مالاً لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه مَن اعتبط مؤمنًا قتلاً عن بينة فإنه قود به، إلا أن يرضى وليُّ المقتول بالعقل، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا القيام عليه.   وأنه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدِثًا أو يؤيَه، وأن مَن نصره أو آواه، فإن عليه لعنةَ الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وأنكم مهما اختلفتُم في شيء، فإن مَرَدَّه إلى الله وإلى محمد.   وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا مَن ظلم وأَثِم، فإنه لا يُوتِغُ إلا نفسَه وأهل بيته.   وأن ليهودِ بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا مَن ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وأن البر دون الإثم، وأن موالي ثعلبة كأنفسهم، وأن بطانة يهود كأنفسهم، وأنه لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمد، وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأنه مَن فتك فبنفسه وأهل بينه، إلا مَن ظلم، وأن الله على أبر هذا، وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.   وأنه لا يأثم امرؤ بحليفِه، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود يُنفِقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجَارَ كالنفس غير مضار ولا آثم، وأنه لا تُجَارُ حرمة إلا بإذن أهلها، وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مَرَدَّه إلى الله وإلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تجار قريش ولا مَن نصرها، وأن بينهم النصر على مَن دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين إلا مَن حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلهم، وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يَحُول هذا الكتاب دون ظلم ظالم أو آثم، وأنه مَن خرج آمنٌ ومن قعَد آمن بالمدينة، إلا مَن ظلم وإثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمدٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم[5].   هذا الدستور العبقري العادل الشامل يؤسِّس للغة القانون ومنطق التعايش السلمي الذي تحتاجه دولة مدنية حديثة ناشئة، على غير تقاليد الجاهلية، وهي مدنية لا تنأى بواقعيتها عن مطلب الشرع؛ حتى لا يُظن أننا نتحدث عن باريس وسويسرا، ولكنها فطرة الله التي تنسجم مع دلائل الواقعية، واقعية يهذِّبها الإسلام، ويحفظها من الشطط أو التغول الدكتاتوري.   هذا الواقع السياسي - الذي بدأت تتشكل معالمه في المدينة من خلال دور الرسول الحاكم - لم يكن خروجًا له عمَّا ارتضاه له ربه بقوله: ? إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ? [فاطر: 23]، بل هو التطبيق العملي لنصوصٍ قطعية الدلالة، فكان امتثالُ الرسول لها عمليًّا إعلانًا عمليًّا لتفسير دلائلها، وقطعًا للتأويلات الفاسدة التي تحاول أن تحوِّل الإسلام إلى دين كهنوتي لا يتجاوز حدود المناسك الفردية، والأخلاق التي لا تدخل عالم السياسة إلا من باب التسامح والتنازل والوجل.   ومن هنا سجَّلت السنة جملةً من الأحاديث البينة؛ كقوله: ((مَن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية))، وقوله: ((إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمِّروا أحدهم))، وقوله: ((لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة...)).   أما التطبيقات العملية - من خلال الممارسة اليومية - فقد أثبتت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان زعيمَ المدينة، وكانت تدار وَفْق تشريعاته التي ألزم بها أصحابه ومخالفيه من أهل المدينة، دون أن يُكرِهَهم على دخول الإسلام، فنصوص الإسلام والوثائق السياسية التي أبرمها الرسول مع أهل المدينة وغيرهم تُثبِت أن واقعًا سياسيًّا أخذ يتشكَّل بشمولية ودقة، وهذا الذي حدث شيء من طبيعة الإسلام وخصائصه.   يقول الدكتور يوسف القرضاوي - حفظه الله -: إن نصوص الإسلام لو لم تَجِئ صريحة بوجوب إقامة دولة للإسلام، ولم يجئ تاريخ الرسول وأصحابه تطبيقًا عمليًّا لما دعت إليه هذه النصوص، لكانت طبيعة الرسالة الإسلامية نفسها تحتم أن تقوم للإسلام دولة أو دار، يتميز فيها بعقائده وشعائره، وتعاليمه ومفاهيمه، وأخلاقه وفضائله، وتقاليده وتشريعاته.   وفي السياق ذاته نقرأ نص الغزالي: الدنيا مزرعة للآخرة، ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توءمان؛ فالدين حارس، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان[6].   وقد وعد الله عبادَه المؤمنين بالتمكين في الأرض، ولا يكون التمكين إلا بسلطان؛ إذ كيف يَعِدُ الله عباده بشيء لا يرضاه لهم، ولا تكون له شروط تحققه كما يزعم الخرَّاصون؟! ومن هنا فقد فهم الصحابة - رضوان الله عليهم - هذا الوعد لهم بأنه رسالة تكليف وحث من الله لفتح البلاد ونشر الدعوة فيها. [1] من ذلك رجوعه عن اقتراحه في غزوة الخندق بعد عرضِه على السعدينِ: سعد بن معاذ، وسعد بن عُبَادة، ونزوله أيضًا على رأي الحُبَاب بن المنذر في غزوة بدر. [2] انظر: النظريات السياسية الإسلامية، ص 28. [3] نفسه ص 29. [4] كما في كتاب: الإسلام وأصول الحكم؛ للشيخ الأزهري علي عبدالرازق، ص 82، وقد رد عليه عدد من العلماء؛ منهم: شيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمد الخضر حسين، وكذا مفتي مصر الأسبق محمد بخيت المطيعي. [5] انظر: محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية، ص (59 - 62)، دار النفائس، بيروت، ط 5، 1985. [6]- انظر: أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج1، ص71، كتاب العلم. "
شارك المقالة:
21 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook