كلمة في مراسم العزاء

الكاتب: المدير -
كلمة في مراسم العزاء
"كلمة في مراسم العزاء

 

الموت ناقوس يقرع آذاننا كل حين؛ ليوقظ كلَّ غافل منا، ويُشعرنا أن الحياة الدنيا ممرٌّ وليست مستقرًّا، هزَّة عنيفة تتعرض لها النفوس التي ما زالت تتنفس عَبَق الحياة، وتزداد شدَّتها إن كان الميت شخصًا ذا مقام وحُظوة وقرابة، ولستُ هنا بصَدَد سرد مواعظ عن هادم اللذات، بقدر ما أودُّ الحديث عن أمور باتت تثير العجب؛ لِما يكتنفها من دلالات تتنافى والعِبر التي يجب أن تفهمها النفس من حدث عظيم كالموت.

 

فمَن يُتابع مراسم العزاء اليوم، سيلاحظ كيف تجردت من معانيها الوعظية، وتغافَلَ القوم عن مغزاها الديني، وبُعدها الإنساني، وأضحى حضورُها طقسًا عاديًّا في عُرف الكثيرين، لا يكاد يختلف عن حضور الكثير من المناسبات، بما فيها حفلات السمر والأعراس، وكيف ستُبصر الاختلاف وخيَمُ حفلات التأبين وحفلات الأعراس صارت سيَّان؟ تحتاج لإقامة صرحِها وتأثيث فضائها لمُموِّن حفلات يسهر على تجميل المكان وتزيينه بأفخر الأثاث، و مَلْء بطون المدعوِّين بما لذَّ وطاب من الطعام، وفِرق إنشاد تتمايل حزنًا أحيانًا، وطربًا أحيانًا أخرى، بل إن بيوت العزاء اليوم صارت مناسبة من مناسبات التباهي والفخر، وقدر الميت بقدر الوليمة التي تقام على شرف موته؛ فمن أعدَّ ليلة عشاء فاخرة، دلَّ هذا على كرم أهل الميت وعلو مقام الفقيد، وإن تورَّعْتَ وتغاضيتَ عن بدعة العشاء، وَسَمُوك بالبخل، وألصقوا بك تهمة العقوق واللامبالاة بالفقيد، بل ربما اعتقدوا أنَّك أزحتَ عن كاهلك همًّا كان يؤرقك، ولا ترغب في تكليف نفسك مصاريفَ أنت في أمسِّ الحاجة إليها، والمؤسف أن تجد طائفة ممن يُحسَبون على التيار الملتزم قد انخرطوا في سلك هذه البِدَع؛ مخافةَ اللوم والعتاب!

 

أما أحاديث النسوة في مثل هذه المناسبات، فحدِّثْ ولا حرج؛ فالعزاء صار فرصة للنمائم النسائية، وتجديد اللقاءات العائلية التي طال أمدُ اجتماعِها، حيث يَطيب المقامُ لتقصِّي الأخبار، وتجاذُب أطراف الحديث التافه، بعيدًا عن الاتِّعاظ بحدَث الموت، ولا تتعجَّب إن سمعت ضحكات وقهقهات هنا وهناك، في إخلالٍ سافرٍ بحرمة الوَقْع الجلل، وتجاهل تام لمشاعر المكلومين من أهل البيت؛ فهل تبلَّدت حواسُّنا فما عادت تؤثر فينا نوائبُ الدهر؟!

 

ولئن كان الواجبُ في العزاء مواساةَ المكلومين وتخفيفَ مصابهم، فإن هذه المراسم أضحت اليوم تشكل عِبئًا ثقيلًا على المحزونين من أهل البيت، وغُرمًا كبيرًا يَدفع أهل الفقيد ثمنه بالملايين أحيانًا؛ درءًا للانتقاد، واستجلابًا للثناء الحسن.

 

وما يزيد القلبَ الرحيم كمدًا حالُ أهل الفقيد أنفسِهم، خصوصًا إن كانوا من أهل الثراء؛ إذ ما أن يُوارى الجثمان الثرى حتى تتعالى في المساء صيحاتُ الورثة، فتَنشبُ الصراعات، وتتأجَّج الخصومات، وسرعان ما يحمل كلُّ فرد نصيبَه ويتوارى عن الأنظار، كأنما ظفرَ بغنيمة في معركة من معارك الحياة غير المنتظرة!

 

لقد فقدَ الإنسان الكثير من مقوِّماته الإنسانية، وغزَت المصالحُ المادية ربوعَ نفسه، وطغت النَّزعة الشخصية على رُوحه الجماعية، وتبلَّدَت مشاعره فصارت أبردَ من الثلج، وأقسى من الجُلْمود، ما عادت روحه الدافئة تسري في كِيان المكلوم، فتشُدُّ من أزْرِه وتقوِّيه، لكأني بالزمان الذي توجَّس منه مَن قبلَنا، قد أظلَّنا بكل ثقله:

هذا الزمان الذي كنَّا نُحَذَّرُه
فيما يُحدِّث كعبٌ وابنُ مسعودِ
إن دامَ ذا الدهرُ لم نحزنْ على أحدٍ
يموت منَّا ولم نفرح بمولودِ


"
شارك المقالة:
20 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook