قضية اختيار.. مرة أخرى

الكاتب: المدير -
قضية اختيار.. مرة أخرى
"قضية اختيار.. مرة أخرى

 

تدُور في الفؤاد أحيانًا أفكارٌ كثيرة، ومَشاعرُ يَصعُب في كثيرٍ مِن الأحيان التعبيرُ عنها أو كتابتُها، وحين نُحاوِل ذلك، ثمَّ نُعاوِد قراءةَ ما كتبناه، نكتشِف أنَّ الكلماتِ لم تَنْبضْ بكلِّ ما نَبَضَ به القلبُ أوَّلَ مرَّة، ولم تستطع حمْل كلِّ المعاني، لكنَّنا مع ذلك نُصِرُّ على الإبقاء على أيِّ أثرٍ يُمْكِنه أنْ يُعِيد إلينا - ولو للحظاتٍ - قليلًا ممَّا لامَس قلوبَنا أو عُقولَنا في يومٍ ما.

 

أحبابي، سأحاول الاقترابَ مِن شعورٍ خالَجَني في بعض المرَّات، وإنْ كنتُ دائمًا أعجَز عن الاستمرار فيه طويلًا، لكنني هذه المرَّةَ سأحاوِل مجدَّدًا معكم؛ عساني أَصِلُ إلى ما لم أَصِلْ إليه قبلُ، أحتاج إليكم، إلى قلوبكم، وإلى كلِّ ذَرَّة مِن خيالكم، بدأ قلبي في النبض، أَمْهِلوني لحظةً، أغمِضُوا أعينَكم لحظاتٍ وتخيَّلوا معي، حاوِلوا أن تكُونوا شهودًا أقرباءَ مِن الأحداث، لكن شهودًا يَرَوْنَ ولا يراهم أحد، بإمكانهم التنقُّل كيفما شاؤوا، وحيثما أرادوا دون حواجز، وحتى الجدران والأبواب ليست حواجزَ بالنسبة إليكم.

 

والآن أحبَّتي تخيَّلوا معي بيتَ العائلة، إنَّكم الآن خارِجَه، انظروا إليه جيِّدًا، ودَقِّقوا النظرَ في كلِّ تفاصيله، ساحتُه ملأى بالناس، يَذهَبون ويجيئون، أغلبُهم لا تَعرفونهم، الآن ادخُلوا البيتَ مِن حيثُ اعتدْتم دائمًا، وتصفَّحوا وجوهَ الناسِ، ووجوهَ مَن تحبُّون، آثارُ الحزن باديةٌ عليها، لا يُهِمُّ لماذا، استمرُّوا في المسير، واخترِقوا كلَّ الفراغات بين الأجساد المتحرِّكة، وامضُوا إلى أوسع غرفةٍ في الدار.

 

إنكم تسمعون الآن مثلما أسمع أشتاتًا مُتداخِلَة مِن أحاديث الناس، غيرَ واضحةٍ تمامًا، يُزعجُني تخيُّلها، أُفَضِّل أنْ تكُون أفكاري صُوَرًا بلا صوتٍ، يَكْفيني صوتُ قلبي، والآن اقتَرِبوا قليلًا، هناك على بُعد خطواتٍ صندوقٌ خشبيٌّ، لا تَعْبَؤوا بالناس الذين يُحِيطون به، هم لا يَرَوْنَكم، اقتَرِبوا مِن الصندوق، وانظروا إليه، أو بالأحرى إلى ما في داخله، هل ترون شيئًا؟ إنه أنتَ أو أنتِ، راقدٌ أو راقدةٌ بلا حَراك، لم يَعُدْ مهمًّا مَن كنتم؟ ولا ما كنتم تملكونه، لم يَعُدْ لكلِّ ما يحيط بكم أيَّة أهمِّيَّة، أَهَمُّ مِن كلِّ ذلك ما ترونه أنتم ولا يراه غيرُكم، ما أنتم سائرون إليه وحدَكم، يا له مِن ألم! يا تُرَى ما كان سببَ الوفاة؟ حادثٌ، مرضٌ أو قتْل؟ كيف كانت اللحظات الأخيرة؟ ماذا كنَّا نفعل؟ مع مَن كنَّا؟ بماذا كنَّا نشعر؟ كيف كان ذَوْقُ خروجِ الرُّوح؟ أكْره الألم، لو كان بالإمكان اختيارُ المِيتَةِ التي نُريد، وتفادي الألمِ، أتعلمون أحبَّتي أنه بالإمكان اختيار المِيتَةِ التي نُريد، وبكلِّ تفاصيلها؟!

 

أنا لا أمزح؛ سمعتُ عن أناسٍ، ورأيتُ آخرِين اختاروا نهايتَهم بأنفُسِهم، واختاروا التفاصيل، واختاروا قبل ذلك كيف عاشوا، وتَمَّ لهم كلُّ ما أرادوه، وبالتفصيل! تأمَّلتُ في كلامهم كثيرًا فوجَدْتُه ينبِض صدقًا، فتذكَّرت قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم للأعرابي: ((إنْ صَدَقْتَ اللَّهَ صَدَقَكَ))، هذا هو السِّرُّ، وهذا هو المفتاح.

 

أخبِروني أحبَّتي بعيدًا عن ضوضاء الدنيا: لو قُدِّرَ لكم أن تختاروا نهايتَكم، وتيقَّنْتُم أنكم ستحصُلون على كلِّ ما تريدون وبالتفصيل، ماذا ستختارون؟ كونوا شجعانًا وصادقين، لا تخافوا، حينما نعلم أنَّه لا بُدَّ مِن أمرٍ ما عاجلًا أو آجلًا، ثم تُتاح لنا فُرصةُ اختيارِ كيفَ يكون، فحينها يُسْتَحْسَنُ المواجهةُ، افتحوا أَعْيَنَكم جيدًا، واقتَرِبوا مِن أيَّة مرآةٍ كبيرة، ودقِّقوا فيها النظر، هل تستطيعون الآن اختيارَ مَسَارِ حياتِكم وتفاصيلِ نهايتِكم؟ كونوا صادقين مع أنفُسِكم؛ ((إنْ صَدَقْتَ اللهَ صَدَقَكَ))، فالقضيَّةُ قضيَّةُ اختيارٍ مَرَّةً أخرى.


"
شارك المقالة:
234 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook