فقه الهجرة الكبرى (4)

الكاتب: المدير -
فقه الهجرة الكبرى (4)
"من وحي الهجرة 2 إقامة الدولة تَكلَّمْنا عن قانون ورقة بن نوفل في المقال السابق، وذكَرْنا أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يهاجِرْ عَبَثًا، ولا لِهَدف شخصي، ولا مِن أجْل مَغْنَم دُنيوي، ولكنْ هاجر لِهَدف عظيم؛ إنَّه إقامة الدَّولة الإسلاميَّة، فمَكَّة لم تَعُدْ تصلح لِهذا الهدف، فمُعظم أهلِها قد رَفَضوا هذه الدَّعوةَ الْمُباركة، فحاربوا أهْلَها وعذَّبوهم، حتى تحقَّق قانونُ ورقة بن نَوْفل؛ ليَعْلمَ الجميعُ طبيعةَ الرِّسالات، وضريبةَ أهلِ الدعوات المُجاهدين الَّذين يَحْملون هَمَّ رسالةِ الإسلام، وتبليغ دِين الله في الأرض. واليوم نتكلَّم عن التضحيةِ لإقامةِ الدولة الإسلاميَّة، هذا الأمر بدونه لن تَقومَ دولةُ الإسلام مرَّةً أخرى؛ لذلك علينا أن نجتهدَ من أجْلِ تنفيذ هذا الأمر، جاعلين رسولَنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابتَه قُدوةً لنا في هذا الأمر، إنَّه التضحية، نعَم التضحية بكلِّ غالٍ ونفيس، بالمالِ والنَّفْس، والأهل والتجارة، وغير ذلك مِن ملذَّات الدنيا. علينا أن نَجعَلَ كلَّ هذه الأمورِ وراءَ الله ورسوله، ووراء الجهاد في سبيله، إنْ أردْنا نصْرَ الله، وإقامةَ الدولة الإسلامية مرَّةً أخرى، أمَّا إنْ رَكنَّا إلى الدنيا وقدَّمْناها، خَسِرْنا الآخرة، وعِشْنا مقيَّدين بسلاسلِ الشهوات وحبِّ الدنيا؛ لذلك حذَّرَنا الله - عزَّ وجلَّ - من ذلك وأمرَنا أن نجعلَه ورسولَه والجهادَ في المرتبة الأولى، نعمل مِن أجْله، نُضحي من أجْله، نجاهد ونجتهد مِن أجله؛ فقال سبحانه: ? قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ? [التوبة: 24]. لو نظَرْنا نظرةَ تأمُّل، لَوَجدْنا أنَّ التضحية بكلِّ معانيها كانتْ في الصحابة - رضوان الله عليهم - رجالاً ونِساءً، وشبابًا وشيوخًا، فمثلاً مِن المواقف الرائعة موقفُ صُهَيْب الرومي، ونحن جميعًا أيها الأحباب نُحبُّ المال، ونتسارع من أجْلِ الحصول عليه، ونجهد فِكرَنا في خطط من أجْلِ الحصول عليه، ولكن هل نستطيع بَعْدَ أن نحصُلَ عليه أن نترُكَه، أو نترك نِصفَه أو رُبُعَه مِن أجْل الله؟ فهذا هو ما فَعَلَه صُهيبٌ الرومي، عندما أراد أن يُهاجِر قال له كفَّار قريش: أتَيْتَنا صُعلوكًا حقيرًا، فكَثُر مالُك عندنا، وبلغتَ الذي بلغتَ، ثم تُريد أن تخرج بمالِك ونفْسِك؟! والله لا يكون ذلك، فقال لهم صُهَيب: أرأيتُم إنْ جعلتُ لكم مالِي أتخلُّون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإنِّي قد جعلتُ لكم مالي، فبَلَغ ذلك رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((رَبِح صُهَيب، ربِح صهيب)). مَن يأتي يومَ القيامة وقدِ اقتطع مِن مُرتَّبه ودخْله مَبلغًا من المال؛ ليُخرجَه في سبيلِ الله، فيقول له الحبيبُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: رَبِحتَ ربحتَ، كما قال لصُهَيب؟ إنَّها هي التضحية أحبَّتي، وهذا هو ثوابها. وغير صُهَيب، الكلُّ ضحَّى، ترَك دارَه وأهلَه ومالَه، وهاجروا إلى الله ورسوله؛ لذلك قامتِ الدولةُ الإسلامية قويَّةً على أكتاف أناس أقوياء العقيدة والإيمان، ومِن الأمور الهامَّة في التضحية التي نُريدُها لنقيمَ بناءَ دولة الإسلام مرَّةً أخرى، هي تضحية الجميع، ففي الهِجْرة تجلَّتْ هذه التضحيةُ، وكأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يلفت نظرَنا لذلك، أنَّ بناء الدولة هي مهمَّة الجميع، فشَارَك الرجال في الهِجرة، وضَحَّى الشبابُ، وكذلك النِّساءُ، الجميع شارَك وضحَّى، فالدولة الإسلاميَّة تستحقُّ جهدًا مِن الجميع، فهي التي تحت ظِلالها يَنْعَم الرجال والنساء، والشباب والشيوخ، بل يَتمتَّع بنَعيمِها أهلُ الكتاب أيضًا. فنجد السيِّدة أسماءَ بنت أبي بكر تُضَحِّي وتتحمَّل عناءَ الطريق مِن بيتها إلى غارِ ثور؛ مِن أجْل مهمَّةٍ كلَّفها بها الحبيبُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكانتْ تحْمِل الطعام مِن مَكَّةَ إلى غار ثور، وهي مهمَّة ثَقيلة، وأسماءُ في أشهُر الحمْل، فكان مِن الممكن أن يقومَ أحدُ الرِّجال بهذا الأمْر، ولكنَّها هي الحِكمة أيها الأحباب، أنَّ للمرأة دورًا في بناء الدولة، وأنَّ المرأة تُضحِّي، كما يُضحِّي الرجل، فهُنَّ شقائق الرِّجال كما قال الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعَلَى المرأة أن تعمل في المجتمعِ ومع أقرانِها؛ مِن أجْل إصلاح البلادِ وبناء الدولة. وكذلك علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في سِنِّ الشباب، ينام على فراش النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليلةَ الهجرة بتكليفٍ منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومِن الممكن أن يَنامَ رجلٌ آخر مكان النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لماذا عليٌّ، وهو في سِنِّ الشباب؟! إنَّها هي الحِكمة، أن يُشارِكَ الشباب في بناءِ الدولة الإسلامية، فعليكم أيُّها الشباب أن تَنْزِلوا إلى المجتمع وتَعْملوا مع أقرانِكم؛ مِن أجل إصلاح البلاد وبناءِ الدولة، فأنتم عمادُ الأُمَّة وخير رِجالها. إذًا أيُّها الأحباب لن تقومَ دولةُ الإسلام بلا تضحية وجِهاد، تضحية مِن كلِّ الناس، من جميعِ طوائف المجتمع، فبِناءُ الدولة الإسلامية مهمَّة الجميع، جَعَلني الله وإيَّاكم ممَّن يُضحِّي من أجْلِ دِينه وبناءِ دولة الإسلام. "
شارك المقالة:
10 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook