الحمدُ لله ربِّ العالمين، ناصرِ دِينه بالمؤمنين، وهو الهادي بإذنِه إلى التمكين.
قرأ رجلٌ من أوروبا عن الإسلام، ثم هداه الله - تعالى - إلى دِين الحقِّ، فاعتنقَه بعدَ جهدٍ ذاتي، وقرر بعدَ الهداية أن يترك بلادَه ويسافر إلى بلاد دِينه الجديد؛ حتى يجدَ من يُيسِّر له سبلَ التديُّن المنشود.
ولكنَّه صُدِمَ بَعْد عدَّة انتقالاتٍ بين بلاد المغرب العربي ومصر، حيث إنَّه فُوجئَ بضدِّ مطلبه وبغيته، لقد كان يتخيَّل أنَّه سينَعمُ بجَنَّة القُرْب من أحفاد الصحابة، وأرض الأنبياء، فإذا به يُشاهد صورًا من البُعد النائي بين المعلوم من الدِّين والواقع الذي يعيشه أتباعُ الإسلام في أرْضِه القريبة من مهبط الوحي.
وقد قرَّر أخيرًا أن يعود إلى موطنه، ويترك البلادَ التي زارها فورًا، وقبلَ أن يترك مدينةَ القاهرة - التي عاش فيها سنتين - قال كلامًا مُرًّا لإمامِ المسجد الذي كان يُصلِّي فيه، حيث كان ممَّا قال: إنني أحمدُ الله - تعالى - على أنني تعرَّفتُ على الإسلام قبلَ أن أتعرَّفَ على المسلمين، لقد كنتُ أتوقَّع أن أجِدَ هنا من يساعدني على دِيني، ولكني وجدتُ الفرق شاسعًا بين ما عرفتُه عن الإسلام وبين واقع المسلمين.
وحَمَل رِحاله، وسافر من حيث جاء.
أمَّا بعد:
إنَّ حقيقة التديُّن الصادق هي المحاولة الدائمة لرسْم صورةٍ لمجتمع يضمُّ أفرادًا ملتزمين، يحاولون تطبيقَ أحكام الدِّين، حتى تكون تصرفاتُهم هي التعبيرَ الواضح عن دِينهم، وحتى يظهروا دِينهم لمَن يرومون هدايتَهم، على غرار ما قام به الرعيلُ الأوَّل من هذه الأمَّة، حيث كان التجَّار الذين طافوا شرقَ الكرة الأرضية هم مَفاتيحَ الخير، ومصابيحَ الهداية للملايين الذين دخلوا في دِين الله أفواجًا.
لقد كانوا يَسيرون خلفَ السُّهول والهِضاب يحملون هذا الدِّين في قلوبهم، ويظهر عطرُه الفوَّاح على جوارحِهم التي لم تعرفِ الحرام من أيِّ طريق، فصاروا مضربَ الأمثال في الأخلاق الكريمة، والمعاملة النقيَّة التي جذبتْ أُممًا بكاملها إلى الإسلام، دون أن يكون فيهم مَن يتخصَّص بالدَّعوة، أو الخُطب الرنانة، والكلام المعجِب.
لم يكونوا يحمِلون خُططًا دعويَّة في رؤوسهم، ولم يكونوا يعملون لصالِح بلدٍ معيَّن أو هيئةٍ معينة، وإنَّما كانوا كما قال الله - تعالى - ? يُرِيدُونَ وَجْهَهُ... ? [الكهف: 28]، وكان حُداؤهم على الطريق: ? حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ? [التوبة: 59].
وفى الأزمنةِ الأخيرة مِن حياة الأمَّة، يشهد الواقع انفصامًا صارخًا بين الادِّعاء والدليل، بمعنى أنَّ هناك كثيرًا من الادعاءات التي ينقصُها الدليل، فكلُّ الناس يدعي حسنَ التديُّن، ويظن أنَّه على ساحل الهِداية منذُ أزمان، ولو تتبعت حاله بشيء من التفرُّس لوجدتُ أنَّ الحال ينطق بحُسن المقال ورداءة الفِعال، ما بين القوْل والفِعل كما بين السماء والأرض، كلمات كألفاظ المهتدين، وأفعال كأفعال الشياطين.
إنَّ حالهم كما يُصوِّره الحديث القدسي الشريف: ((إنَّ الله - تعالى - قال: لقد خلقتُ خلقًا، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمَرُّ من الصبر، فبِي حلفتُ لأُتيحنَّهم فتنةً تدع الحليمَ منهم حيرانَ، فبي يغترُّون؟ أمْ علي يَجترِئون؟))؛ الترمذي في السنن (2405) عن عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - والحديث حسن غريب.
لا بدَّ وأن يوقِن المسلم أنَّ الله خلقَه في هذا الكون سببًا لإقامة دِينه في الأرض، وتعريف الناس ما هو الإسلام، بمعنى أنَّه خليفةٌ عن الله - تعالى - في تصريف الحياة بأمرِ الله، ومِن فضلِه – تعالى - على عباده أنَّه أيَّدَهم بالنبي الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - والذي بيَّن لهم الشَّرْع المجيد.
المسلم سفير عن دينه في كل مكان
وأنت يا أخي المسلم، مسؤول عن هذا الدِّين، وعن إقامته بين الناس، وخصوصًا إذا كنَّا نعيش في بلاد الغُرْبة، حيث تزدادُ المسؤولية، وتعظم قيمة العبدِ بمقدار ما يحمله من همِّ هذا الدِّين، حيث إنَّك تعيش في عالَم غريب في اعتقاده ومبادئِه وأخلاقه وسلوكياته، ليس لك أن تنجرِف مع الناس الذين تعيش معهم في أخبث عقائدِهم وصفاتهم وتصرفاتهم، بل واجبُك أن تقيم الإسلامَ باسم الله؛ ليفتح الله لك القلوبَ، ولتتمكَّن من التوحيد الطاهر الذي حُرِمت منه النفوس العطشَى إلى الإسلام العظيم، الذي لو عرفوه ما تركوه، فلا تكن سببًا في تأخير الهداية التي تملكها للنَّاس؛ لأنَّ الله سائِلُك يومَ القيامة عن ذلك.
إنَّما أنت سفيرٌ عن الله وعن رسوله في هذه البلاد التي يسَّر الله - تعالى - لك الوصول إليها، واكتسابَ الرِّزق منها، إنَّما أنت بينهم للهداية فقط، لا للغواية والركض وراءَ المصالِح الدنيويَّة المؤقتة والشهوات، هذه ليستْ أخلاقَنا، هذه ليست رسالتَنا، إنَّما نحن باختصار حَمَلةُ دِين، وأهل مسؤولية، لا ينبغي لنا أن ننساها طرفةَ عين.
دليل السفراء
وأنتم تعلمون - إخوتي - أنَّ كلَّ سفارة لها منهجٌ ونظام، وتدابيرُ معيَّنة، فما دليلُك؟
لا شكَّ أنَّه القرآن وسُنَّة النبي العدنان القائل: ((تركتُ فيكم أمْرَين، لن تضلُّوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسُنَّة رسوله))؛ الألباني في مشكاة المصابيح (184)، وإسناده حسن، فدليلُنا على طريقنا هو ما قال الله - تعالى - وما أمر به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليس لنا أن نرُدَّه، أو نحرِّفه، أو نلغيَه، أو نغيِّرَ معناه؛ قال الله - تعالى -: ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ? [الأحزاب: 36].
بل إنَّ الله - تعالى - حذَّرنا من مغبَّة المخالفة؛ فقال – تعالى -: ? فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? [النور: 63].
كل فرد على مسؤولية
ولْيعلمْ كلُّ مَن اختاره الله - تعالى - للعيش في هذه البلادِ بأنَّه على مسؤولية خاصَّة به، وواجبة عليه، إنَّه كالجُندي والحارس الذي لا تغفل له عين، ولا يغمض له جِفن، إنَّه حارس أولاده وزوجته من سُوء الأخلاق، وعدمِ التديُّن، كما أنَّه مسؤول أن يُطعِمهم ويكسوهم، والتاجر مسؤولٌ عن إقامة دِين الله في تجارته، وهذا يَفرِض عليه أوَّلًا أن يتعلَّم أحكامَ الدِّين فيما يخصُّ التجارة، فلرُبَّما يربح من حرام وهو لا يدري، فيُدخل أجوافَ أولادِه وأهله، وأحبِّ الناس إليه نارًا، وهو لا يشعرُ بذلك؛ لجهله واستخفافه بدِين الله، كان عمر بن الخطاب يقول: لا بَيْعَ في سوقنا إلَّا لِمَن تفقَّه في دِين الله تعالى.
والطبيب مسؤول عن تقديم الصورة المسلمة في وظيفته، وكذلك المعلِّم والموظَّف، وكل شرائح المجتمع.
والجميعُ مسؤولون مسؤوليةً جماعيَّةً عن الهِمَّة العالية للعمل على الدَّعوة في سبيل الله بالكلمة الطَّيِّبة الواعية، التي تصدر مِن عقل ذكيٍّ، وقلْب تقيٍّ، مسؤولون كذلك عن تقديم العَونِ المالي لمصلحة هذه الدِّين بدلًا من انتظاره من الخارج، فليس المسلِمون في هذا البلد فقراء، إنَّما الفقر في الفِكر لا في الجيوب.
وعلى الأخت المسلِمة تقديمُ أجْلَى الصُّور من فيْض الخلق الكريم، الذي يجمع بين الحياء والوفاء، وطهارة اللِّسان والإحسان إلى الجِيران، زيادةً على التحنُّن الدائم لزوجِها وراحته وعِفَّته، ومساعدته وعدم إرهاقه، مع التَّمسُّك الدائم حتى الممات بحِجابها الذي هو رمزُ عِفَّتِها، والتطلُّع المستمر لأولادها وبناتها؛ لتُربِّيَهم على مكارم الأخلاق، ومحاسنِ الشِّيَم، وعدم تركِهم فريسةً لهذا الطوفان الإباحي المدمِّر، خيرٌ للمرأة المسلِمة أن تربيَ هي أولادها، فتربية الشوارع وأصدقاء السُّوء تخلق جيلًا بطَّالًا متسكِّعًا لا قيمةَ له، وأنتم تعلمون ضراوةَ الواقع الذي يموج بالفِتن، وفيه كلُّ جراثيم العفن الأخلاقي الذي يؤثِّر سلبًا على تكوين أولادِنا.
إنَّ مسؤوليتَنا جميعًا في هذا الصَّدد هي تكوينُ جيل جديد قادرٍ على تحمُّل المسؤولية أفضلَ ممَّا تحملناها، يحمل همَّ الإسلام فقط، لا هم الدِّرهم والدِّينار والشهوات الجامحة، والعلو في أرض الله.
يقول الشيخ النجَّار: هاتوا لي أربعين شابًّا ملتزمين يُقيمون الإسلامَ في أنفسهم ويُطبِّقونه تطبيقًا جيِّدًا، وأنا أفتح بهم الأمريكتَينِ، إنَّ هذه الشُّعوب عطشى، وأنتم وحدَكم يا أبناءَ الإسلام بأيديكم الماءُ الذي يَروي العطاشى، لكنَّكم لا تشربون ولا تسقون غيرَكم.
فاقد الشيء لا يعطيه
مِن المعلوم والمعقول أنَّ فاقدَ الشيء لا يُعطيه، وأنَّ الإنسان لا يُمكن أن يحمل رسالةً لا يَعرِف عنها شيئًا؛ لهذا واجبٌ على كلِّ سفير باسم الإسلام أن يَعرِف ما هو الإسلام، وأن يحاول بِنِيَّة صافية وصادقة لله - تعالى - أن يُطبِّق هذا الدِّين في كلِّ أمور حياته، في معايشِه وعباداته وصداقاتِه، وحبِّه وبُغضِه، وعطائه وأخْذِه، وكلِّ شؤون الحياة، فإذا رآه الأجانبُ على هذه الصورة أحبُّوها، وأحبُّوه، وسألوا عنه: لماذا يفعل كذا ولا يفعل كذا؟ فنُجيبهم: لأنَّه مسلمٌ يتقي الله، فيكون فِعلُه في الناس أبلغَ بكثير من الوعْظ وكثرة الكلام الذي ليس له رصيدٌ من الصِّدق.
ديارَكم تُكتب آثارُكم
سيُسجِّل التاريخ يومًا أنَّنا كنَّا هنا، لكن إن كتب التاريخ عنَّا ماذا سيقول؟ هل ننتظر أن يُجاملَنا التاريخ ويقول: إنَّنا ربَّيْنا جيلًا على قدر المسؤولية؟! والإجابة - لا شكَّ - تختلف من إنسانٍ إلى آخَرَ، فمِن الناس من بَنَى أولادَه وأسرته على تقوى مِن الله ورضوان، ومِنهم مَن بَنَى بيته وأولاده على شَفَا جُرفٍ هارٍ، فانهار به مع أوَّل صدمةٍ في الحياة.
((دِيارَكم تُكتبْ آثارُكم))، هكذا قالها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لبني سَلِمة، والخِطاب لكلِّ المسلمين؛ فعن جابر بن عبد الله - رضي الله تعالى عنه - قال: أراد بنو سَلِمة أن يتحوَّلوا إلى قُرْب المسجد، قال: والبقاع خالية، فبلغ ذلك النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((يا بِني سَلِمة، دِيارَكم، تُكتبْ آثارُكم))، فقالوا: ما كان يَسرُّنا أنَّا كنَّا تحوَّلْنا؛ رواه مسلم (665).
ديارنا تكتب آثارنا إن صَلَّيْنا أو فَسَقْنا، إن كنَّا نلهو ونلعب أو نهتمُّ بمعالي الأمور، أنفاسُنا في بيوتنا معدودة علينا، وحركاتنا، وحسناتُنا، وسيِّئاتنا، والله مُطَّلِع علينا، إنَّ الغافل والأحمق هو الذي يقول في نفسه: أنا في بلاد غريبة، أفعل ما أشاء، أنا حُرٌّ، لا رقيبَ عليَّ، وهذا أوَّل طريق الضياع الحقيقي.
صورة المسلم في عيون الغربيين
لنحاول أن نُغيِّرَ الصورة السلبية التي ران عليها الكذبُ أحيانًا، وشوَّهتْها تصرفاتُ بعض المسلمين المغتربين أحيانًا أخرى.
صورة المسلِم في الإعلام الغربيِّ أنتم تعرفونها، ليس له في أذهانهم إلَّا أنه شهوانيٌّ، إرهابيٌّ، مُقيِّد حريَّة النِّساء، وغيرها من الصُّور السلبيَّة التي تنفخ فيها نارُ الحِقد الذي يُصوِّرنا دائمًا بأنَّنا متَّهَمون.
وعلى المجال التجاري علينا أن نسألَ أنفسَنا: يا تُرى ما صورةُ المسلِم عند غير المسلمين في مجال البيع والشراء؟ أرجو أن تكون الإجابةُ في صالِحِنا؛ لأنَّ ذلك مِن حَمْلِ المسؤولية، وحُسْنِ السِّفارة عن الله ورسوله.
ويا تُرى ما شهادةُ النِّساء الأجانب لرِجال الإسلام؟ هل يشهدون لهم بالعِفَّة والاستقامة؟ أرجو أن يكون كذلك؛ لأنَّها شهادة في صالح الإسلام.
يا شباب الإسلام
ما أجملَكم وأنتم في عِفَّة الصِّدِّيق يوسف، وقوَّة موسى، وفصاحة هارون، وحِلم إبراهيم، وذِكْر يونس، وحنانِ يحيى، وسلام عيسى - عليهم السلام - ومجامعِ الخُلق القويم لسيِّد الخَلْق - عليه مِن الله أفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم - أنتم تُمثِّلون الأنبياء؛ لأنَّكم مسلمون، أنتم للهداية لا للغَواية.
فليحملِ الجميعُ هَمَّ الكلام، وليتشرَّف بالمسؤولية من جديد؛ لأنَّنا إذا لم نكن كذلك – عِياذًا بالله – صار المسلمُ بسوء فِعْله يصدُّ غيرَ المسلمين عن الإسلام؛ ? رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفُرُوا... ? [الممتحنة: 5].
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.