رحلة مع الخليل عليه السلام

الكاتب: المدير -
رحلة مع الخليل عليه السلام
"موت المهاجر إلى ربه   مِن بينِ كل قصصِ الهجرة العبقريةِ التي تَمَس شَغاف القلب، وتلمس أوتارَه، فضلًا عن رحلة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبِه التي تُسطر بماء الذهب؛ تقفُ قصةُ الصحابي جندب بن ضمرة (وقيل ضمرة بن جندب، وقيل جندع) الذي كان حبيسَ مكة، وأراد أن يهاجر إلى الله عز وجل ويذهب إلى المدينة؛ موقفًا فريدًا على قِصَره وإيجازه.   ها هو ذا يأخذ قرارَه في حزم وعزم، ويجهز راحلتَه وعُدته على كبر سنه، ويقول لَمّا نزل قول الله عز وجل: ? أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا.. ? [النساء: 97]: اللهم قد أبلغتَ في المعذرة والحجة، ولا معذرة ولا حجة. ثم يخرج - وهو شيخ كبير - مهاجرًا إلى الله ورسوله، ولكن سرعان ما تنتهي القصة؛ إذ يموت في الطريق، ويسدل الستار على حياة هذا المهاجر...!   ولكن.. إنها ليست قصةً تُروى ولا كلمات تُسطر، ولكنه موقفٌ وصبر وعاطفة وإيمان. إنه الصدقُ مع الله عز وجل.. إنها الهجرة الحقيقية التي بلغت منتهاها.. وهل يتمنى مسلمٌ أكثرَ من أن يموت مهاجرًا لربه عز وجل؟   إن حدث الهجرة حدث ضخم، حدث جليل وكبير، ويستأهل أن يقف الإنسانُ مع كل جزء من تفاصيله وقفةً، بل وقفاتٍ على مستوى التشريع، وعلى مستوى البطولات.. إذ تؤثر في العبد مثلُ هذه المواقف التي تعبر عن صدق البذل وعن نصاعة هذا القلب، وتفرده وخلوصه من العوائق والأمراض..   هذا رجل علم علمًا يقينيًا بما عند الله - عز وجل -، ونظر لقومه الذين لم يهاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخشي أن يكون مع الذين فرّطوا في حق من حقوق الله تعالى، فهاجر بقلبه قبل أن يتحرك بجسده، وهذه هي الهجرة الحقيقية..   وصدق الأمين محمد صلى الله عليه وسلم لما قال: المهاجر من هجر ما نهى الله عنه..، رواه البخاري. وقد يتعرض الإنسانُ للسخرية والسب والشتم والتندر، ولا يبقى إلا ما كان لله سبحانه. ولا يذكر التاريخُ عن هؤلاء الممتنعين الكافرين شيئًا ذا بال، ولكن يفخر برجال من أمثال جندب.   إن المسلم الحق إذا أراد أن يقيس نفسه، ويعلم في أي حال هو عند ربه؛ فلا بد أن يضع نفسه على هذا المحك في مقابلة أمثال هؤلاء السلف الكرام (مع الفارق الضخم في العمل والفضل والزمان والمكان) ويسأل نفسه هذا السؤال: هل من الممكن أن أهاجر وأترك كل شيء..؟   إن الإنسان مجبول بفطرته على الأنس بالناس، وعلى محبة الاجتماع والوداد والصلة بالآخرين، ولا أحد يطيق أن يعيش وحيدًا، ولا أحد يستطيع أن يهجر منطقته الوادعة الآمنة التي فيها أهله ورزقه وسكنه وأصدقاؤه وأقرباؤه، هذا ليس سهلًا على البشر، وليس هناك زر للهجرة في صدر العبد، بمجرد أن يضغطه يقوم بعمل مسح لكل الملفات المتعلقة بالمكان، ويمحو كل الذكريات والبسمات والضحكات بل والبكاء والحياة والموت..   إن عبقرية هذا الجيل واضحة في زمن الهجرة أوضحَ ما يكون في مثل هذا الخيار الصعب الذي اختاروه، وهذا الانسلاخ الكامل من كل ما سبق، وما ذلك إلا متابعة ونفرًا وراء النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك فمعنى الهجرة أعمق بكثير من مجرد قطع مسافات ومكابدة أسفار وصبر على عناء طريق وعر..   بل مكابدة هذه النفس التي تشدك إلى الأرض، والتي هي ألصق شيء بك، هي المكابدة الحقيقية والهجرة الحقيقية.   ولا أدل على عظم هذه القصة، وعظم شان هذا الرجل، وجميل عمله وإخلاصه، من نزول قرآن فيه، وكفى شرفًا ومكرمةً أن يذكر هذا الرجل إذا تلي قول الله عز وجل: ? وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ? [النساء: 100]، إذ نزلت في هذا المهاجر الذي مات ولما تبدأ رحلته..   وكأن هذا هو الرد على من قال من المسلمين (كما روت لنا كتب السير والتراجم): مات قبل أن يهاجر، فلا ندري على ولاية هو أم لا، فنزلت: ? وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا... ? الآية.   وقول القائل: (أعلى ولاية هو أم لا) المقصود به قوله تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا... ? الآية [الأنفال: 72].   وتأمل قول الرجل: اللهم قد أبلغت في المعذرة والحجة، ولا معذرة ولا حجة. فهذا رجل علم ما يجب من حق الله عز وجل، ثم أحسن غاية الإحسان في أداء هذا الحق، ولم يمنعه كبرُ سنه وضعفه ومرضه من أن يهاجر لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم.   وما أحسن ما قال ابن القيم عن طريق سفر المهاجر: وأما طريقه: فهو بذل الجهد واستفراغ الوسع، فلا ينال بالمني ولن يدرك بالهوينى وإنما هو كما قيل: فخُض غمَراتِ الموت واسمُ إلى العلا لتحظى بعز في حياتك دائمِ فلا خير في نفس تخاف من الردى ولا همةٍ تصبو إلى لوم لائمِ   ولا سبيل إلى ركوب هذا الظهر إلا بأمرين: أحدهما: أن لا يصبو في الحق إلى لوم لائم؛ فإن اللوم يصيب الفارس فيصرعه عن فرسه ويجعله صريعا في الأرض. والثاني: أن تهون عليه نفسه في الله، فيقدم حينئذ ولا يخاف الأهوال، فمتى خافت النفس تأخرت وأحجمت وأخلدت إلى الأرض.   ثم لا تنس أن المسافر العادي يسافر وهو يعلم حال المنزل الذي سيأوي إليه، فيكون مطمئنًا لوجود السكن والملجأ، ووجود الطعام والشراب؛ أما حال المهاجر فإنما هو الانتفاض والترك دون معرفة بحال ذلك المنزل الآخر، وهذا ملمح من ملامح عبقرية الهجرة: أن المهاجر لا يدري عن هذا الموطن الآخر شيئًا إلا الاسم فقط، لكن ماذا سيكون حاله بعد ذلك؟   هل سيجد المأوى..؟ هل سيجد العمل..؟ هل سيجد الزوجة..؟ هل وهل وهل.....................؟   كل ذلك قد فوض المهاجر فيه أمره إلى ربه ليقضي فيه برحمته ما يشاء؛ إذ يقين المهاجر وتوكله أعلى درجات اليقين والتوكل، وهجرته دليل ساطع على ذلك.   ثم لا تنس أيضًا ألم الفراق وترك الأوطان، إنه أمر مؤلم يحز في النفس حز السكين، وما سميت (هجرة) إلا لهجر الأوطان ومنازل العيش والطفولة الأولى...   وهذا بلال رضي الله عنه تجيش مشاعره يومًا فلا يملك نفسه ويفيض حنينه إلى أماكن نشأته، ويتمنى فقط لو رأى تلك الأماكن يومًا من الأيام: فهل أردنْ يومًا مياهَ مجنةٍ ??? وهل يبدونْ لي عائذٌ وطفيلُ   وما عائذ وطفيل إلا جبلان، ولكنها المنازل والبقاع التي شهدت أحداث شبابه وذكرياته الحميمة ولو نطقت لباحت له بحبها وحنينها هي أيضًا.   وأختم الكلام بما ذكره صاحب (أسد الغابة) عن جندب رضي الله عنه قال: كان له أربعة بنين فقال: اللهم إني أنصر رسولك بنفسي، غير أني أذود عن سواد المشركين إلى دار الهجرة، فأكون عند النبي صلى الله عليه و سلم فأكثّر سواد المهاجرين والأنصار، فقال لبنيه: احملوني إلى دار الهجرة، فأكون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحملوه، فلما بلغ التنعيم مات، فأنزل الله عز وجل: ? وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ... ? [النساء: 100] الآية.   والحمد لله رب العالمين. "
شارك المقالة:
19 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook