رحلة الخلود

الكاتب: المدير -
رحلة الخلود
"من وحي الهجرة سيظل حادث الهجرة ماثلاً في أذهان الناس ما بَقِي في الدنيا حقٌّ يُصارع باطلاً، وإصلاحٌ يُقارع فسادًا، وجهادٌ في الحرية يقاوم طغيانًا وظلمًا، وسيبقى ما كابَده الرسول - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - في هذه الرحلة الفريدة مثلاً صالحًا، يَهتدي به المصلحون في مُدْلهمات الخطوب، ويَقتدي به القادة المهتدون، إذا نبَت بهم الديار، أو ضاقَت بهم الأوطان، فالتَمسوا لدعوتهم ديارًا أخرى، فيها تَزكو وتَنتشر، وتَشِبُّ وتُثمر.   لقد ضاقت قريش ذرعًا بدعوةٍ جديدة تَعيب آلهتَهم، وتُحطِّم أصنامهم، وتتَّجه بالنفوس إلى خالقها الأعلى، وبالقلوب إلى العقيدة النقية الصافية، فحَزَرُوا أن في هذه الدعوة خطرًا على مُلكهم، وأن هذه الكلمات الأولى التي تُلقى ستَنمو في أرضهم، وأن بذورها تعيش تحت أقدامهم؛ لكي تُزلزل يومًا من الأيام ما هم فيه من حُكم وسلطان، فقام كُبراؤهم يُؤَلِّبون الناس على الرسول، ويُحرضون أتباعهم على محاربته والسخرية منه، والتهكُّم بدعوته، واخترعوا في ذلك أفانينَ القول، وابتكروا ضروب الحِيَل، وكذلك سلَّط الله شِرار الناس على خيارهم، وسفهاءَهم على عقلائهم؛ ليكون في الدنيا دائمًا فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير، وإنما يستمد فريق الجنة حياته من أذى أصحاب السعير؛ ? وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ? [هود: 118 - 119].   إن الأنبياء وأتباعهم من الهُداة والمرشدين، يقومون في الدنيا على معالمها، ويَقفون في الحياة على قِمَمها، يُرسلون إلى الناس نورًا وضياءً، فمن ارتفَع بصرُه إلى هذا النور، وصَفت بصيرته، فاستضاءَت بذلك الضياء - سار في طريقهم واهتدى بهداهم، ووصل إلى المدى الذي جعَله الله نهاية الإنسان الفائز السعيد، ومَن عشَى بصرُه، ونُكِّس رأسه، فلم يرَ هذا النور، وأظلَمت بصيرته، وأُغْلِق فُوه، فلم تَصِل إليه أشعَّة الهداية - تنكَّب عن الطريق، وتردَّى في الهاوية، وانتهى نهايةَ الإنسان الخاسر الذميم، وهؤلاء دائمًا حربٌ على الأنبياء والمصلحين، بل هم حرب على أنفسهم وعلى الإنسانية جمعاءَ، وكم لاقى النبيُّون من فريق الأشقياء! وكم كابدَ منهم المصلحون!   فليس ما فعَلتْه قريش مع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - بِدعًا من سُنن الكون، ولا شاذًّا من الأباطيل والضلال؛ وإنما هي سُنة الله في الأنبياء قبله، بل وفي الخلق جميعًا، ولن تجدَ لسُنة الله تبديلاً.   وقد كانت الهجرة - من الأرض التي تُنكَر فيها الدعوة وتُكفَر - تَرِد بخاطر النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - وكانت تُحدِّثه نفسُه الشريفة أن يتركَ هذه الأرض إلى بلاد تنمو فيها الدعوة وتنتشر، وتعظم كلمة الله وتُذكر، وفي سَعة الخافقين مضطربٌ، وفي بلادٍ عن أختها عوضٌ.   روى أبو موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - أنه قال: ((رأيتُ في المنام أني أُهاجر من مكةَ إلى أرضٍ بها نخلٌ، فذهَب وَهَلي - (وهمي واعتقادي) - إلى أنها اليمامة أو هَجَر، فإذا هي المدينة: يَثرب)).   ومن هذا تَعْلَم أن الهجرة كانت تُخالج نفسه الشريفة، وأنها كانت من نوازع قلبه الطاهر؛ ليجد لدعوته مكانًا طَلقًا، تُدوِّي فيه كلمة الله، لا يَصُدُّ عنها كيدُ الشيطان، ولا يقف في طريقها شرُّ الإنسان، وقد كانت السعادة الأزليَّة مُقدَّرةً في علم الله للمدينة المنورة، وفي الأماكن ما يَسعَد ويَشقى كما يَسعد الإنسان ويشقى، وسعادة المكان مَردُّها إلى ما يُضيء فيه من هداية تُرسل أشعَّتَها إلى نواحي الدنيا، فتَنشر فيها المعارف، وتغرس المودة والإخاء، وتبسط ظلال الرحمة والسلام، ومن سعادة الأمكنة أن يَنبت فيها الغذاء الطيِّب الذي يُقيم الحياة ويُصلح الأرض، فتتَّصل خصوبتها إلى ما يُلاقيها من مواتٍ، فيَزكو ويَنبُت غرْسه، وتَعظُم ثمرته، وكذلك كانت مدينة رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - فقد كانت مَنبت المبادئ التي عاش بها الإنسان سعيدًا، ومصدرَ النور الذي سرى في بقاع الأرض، فأضاءَ جَنباتِها، وكشَف ظُلُماتِها، فكانت أسعدَ المدن بما قدَّمت للعالم من سعادة، وأبقاها على الدهر بما هيَّأت للدنيا من أسباب البقاء. وإذا نظَرتَ إلى البِقاعِ وجَدتَها تَشقَى كما تَشقَى العِبادُ وتَسعَدُ   وبقدر ما يُتاح للإنسان والزمان والمكان من أسباب السعادة، يكون اصطفاء الله للإنسان والزمان والمكان؛ ? وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ? [القصص: 68].   كلما أهلَّ هلال المحرَّم، هاجَ في النفس خَطرات، وحرَّك فيها نزعات، ولن تنتهيَ هذه الخطرات وتلك النزعات، ففي كل عام منها جديدٌ، لا يَنْفَد هذا المَعين ولا يَنضُب؛ لأنه كان مددَ الحياة الذي لا يَنقطع ولا ينتهي، فأيُّ درسٍ للمسلمين يكفُل لهم السعادة، كالدرس الذي تعلَّموه من الهجرة؟!   ولو أن المسلمين لم يَقصروا احتفالَهم بالهجرة على كلمات تُكتب، وخُطبٍ تُلقى، وتسابُقٍ في البيان، وتنافُسٍ في العبارات؛ ليتَّخذوا من ذلك ثوبًا من الرياء، ونَسجًا من الخُيَلاء - لكان لهم شأن آخرُ غير ما هم عليه اليوم، ولكانوا كالمسلمين الذين عاصروا الهجرة، واهتَدوا بهداية صاحبها - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.   الهجرة خروج بالحق عن محيطٍ يَطغى عليه ويَحجُب ظهورَه، ويُحاربه ويمنع نورَه، إلى محيط رفيقٍ به، ومؤيِّد له، يَقبله قَبولاً حسنًا، ويُضحِّي في سبيله، ويتفانَى في نَصره وإعزازه.   إنها نزوحٌ عن الأوطان، وفِراق للأهل والإخوان، وترْكٌ لمدارج الشباب، وديارِ الخِلاَّن والأصحاب، وما أعزَّ ذلك على الإنسان! ولكنَّ الحق الذي يجاهد المهاجرُ في سبيله أعزُّ، وكلمة الله العلي الكبير أقوى وأقومُ، وما أهون كل عزيزٍ إذا كان هجرةً لله! وما أرخصَ كلَّ غالٍ متى كان بذْلُه في رضاه!   إن الحق الذي كان في زمن الهجرة وكانت الهجرة في سبيله - لا يَزال هو الحق، وسيبقى كذلك ما دامت السموات والأرض، فالمسلم الذي وفَّقه الله ليتَّخذ من رسول الله أُسوةً حسنة، مُطالَبٌ من الله حيثما كان وفي كل زمانٍ، بأن يكون مع الحق الذي يدعو إليه دينُه، وأن يَعتزل كل بيئة تَصُد عن الحق وتَطغى عليه، وتَنصُر عليه الباطلَ، وتتخبَّط في ظلماته.   ولو أن المجتمع الإسلامي - في كل زمان ومكانٍ - التزَم الحرصَ دائمًا على مجافاة الناس الذين هجروا دينهم، وجعلوا دينَهم التهكُّمَ برجاله، وطغوا على الحق واعتدوا على بُنيانه، ولو أنه آزَر الحق ووالَى كلَّ مَن قام به ودعا إلى تأييده - لكان هذا المجتمع الإسلامي الحاضر كالجماعة الإسلامية الأولى التي ألَّفها المهاجرون الأولون والأنصار الأكرمون؛ فإن المهاجرين لم يكن لهم فضلٌ على سواهم إلا بمجافاة الباطل والهجرة إلى الحق، ولم يكن للأنصار منزلة إلا بأنهم نصَروا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - وأيَّدوا دينه واعتَنقوه، ووهَبوا أنفسهم للذَّود عن حِياضه، وبذَلوا أموالهم لتأييد ما جاء به من الحق، ومحاربة الباطل الذي أخرج الرسول ومَن معه من ديارهم وأموالهم بغير حقٍّ، إلا أن يقولوا: ربُّنا الله.   ولَمَّا دانت مكة للدعوة الصادقة، وصار أهلها كلُّهم من أهلها، أعلن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - أنه لا هجرةَ بعد الفتح؛ لأنه لم يَبقَ في مكة باطلٌ يُعتزَل بالهجرة عنه إلى دار الإسلام، ولكنْ جهادٌ ونيَّة، فالجهادُ في سبيل العدل والحقِّ باقٍ ما بَقِي الباطل والظلم في الأرض، والنيةُ هي سبيل الحق ومِفتاح الخير، ومقرُّها الضمير الذي لا يطَّلِع عليه إلا اللهُ العليم بما تُخفي الضمائر، فإذا عجَز المسلم عن محاربة جبَّارٍ عنيد، أو مجالدة شيطان مريدٍ، أو شهَر الباطل سيفَه على الرِّقاب، أو صوَّب رُمحه إلى القلوب، ولم يَعُد لأُولي البصائر طاقةٌ على الجهر بالحق ونصْره، وإخفاء الباطل وخِذلانه، فلتكن نيَّة المسلم يومئذٍ تُجاه كل حادثٍ وأمام كل أمرٍ، مُنصبَّةً على تأييد الحق وترجيح الخير، فإنه بذلك يكون من أهل الهجرة - إن شاء الله.   فإن الهجرة في كل زمان بعد الفتح جهاد ونيَّة، فليُجاهد المسلم ما استطاع بكل أنواع الجهاد وجميع أسلحته؛ لنُصرة الحق على الباطل، والخير على الشر، ولتكن نيَّته مُنصبَّة على ذلك ومتَّجهة إليه، وبهذا وحْده يكون في سبيل الهجرة واللاحقين بأهلها.   إذا كتبتُ في يوم الهجرة جميع الخواطر التي تَنثال على الفكر، فلن أنتهي منها إلا إذا خرَجت إلى مدًى غير محدود، والحَيِّز ضيِّق لا يسَع هذا كله، ولكن هناك من الخواطر ما لا ينساه الإنسان مهما مرَّت الأيام، وكرَّت الشهور والأعوام، فلا يمكن أن ينسى إنسان تلك الصداقة التي دانَ لها التاريخ، فحوَّلت مجراه وغيَّرت طريقه من مبدئه إلى منتهاه، فإن الله خلَق في الدنيا قلوبًا خِصْبة، تَقبل النداء، وتُصغي إلى الداعي في الشِّدة والرخاء، وكان من أول هذه القلوب: القلب الكبير الذي كان يَحمله الصِّديق الكريم أبو بكر - رضي الله عنه.   إنه سمِع من رسول الله أن الله تعالى أذِن له في الهجرة، فلم يكن همُّه ذلك الوقت في مالٍ ولا نَشَبٍ، ولا أهلٍ ولا ولدٍ، ولم يَقصِد إلى عرضٍ من أعراض الدنيا يُفكر فيه، ولا خليلٍ يُؤنسه ويَصطفيه.   ولكن كان همُّه ومنتهى أَرَبه أن يقول: الصُّحبةَ يا رسول الله، وقد كان في هذه الصحبة من التضحية والإيثار أكبرُ المثل التي يرسمها الأولُ للآخِر، وأعظم العِبر التي يتركها سلف صالحٌ لخلفٍ يريد أن ينتفع بأكبر العِظات وأروع الأمثال.   فإذا ذكَرنا هذا الحادث العظيم الذي لم تَشهَد له الإنسانية في جميع مراحلها شبيهًا، فلنذكر موقف الصِّديق الأعظم الخليفة الأول لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - ولنُفكِّر فيما يفعل الإخلاصُ بأهله، ولننظر ما تَصنع الهِمةُ الكبيرة إذا اتَّجهت إلى سبيل الخير؟!   إن المسلم الصادق ليَمتلئ فَخارًا عندما يقرأ هذه الصفحات من التاريخ، ويرسُم أسطرها على فؤاده، ويجعل أبو بكر - رضي الله عنه - كلماتها للإسلام ولرسول الإسلام، إنه تجرد للحق ودين الحق ورسول الحق، وهاجر في سبيل الحق، وهو يُؤثِره ويَفنى فيه، ويَختاره على كل شيء في هذا العالم الفاني، مبتهجًا بذلك مُغتبطًا به، يملأ السرورُ قلبَه، كأنما سِيقت إليه الدنيا بأسْرها، أو ملَك الوجود بما فيه، وبذلك استحقَّ الشهادة من الله العلي الأعلى.   ? إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? [التوبة: 40].   وما أحسنَ أن يُتاح للدنيا صداقة كهذه الصداقة؛ تَعمل للخير وتُؤثِره، وتَنفِر من الباطل وتَهجُره، ويبقى ذِكرها ثناءً خالدًا وعزًّا تالدًا، ويَمدُّها الله بجنود من عنده، ويؤيِّدها برُوحٍ من قوَّته!   وصدق الله العظيم، أيَّد رسوله وصاحبه بجنود لم نرَها، واشترَك الحمام والعنكبوت في حرب البغي والجَبروت. وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه الواحدُ "
شارك المقالة:
11 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook