حدث في السنة الخامسة من الهجرة (4)

الكاتب: المدير -
حدث في السنة الخامسة من الهجرة (4)
"ذكرى الهجرة في ليلة شبيهة بهذه قبل بضع وثلاثين وأربع مائة عام كان صبر الباطل قد نفد، واستفزاز الحق له قد بلغ منه الجهد، ولم يعد يستطيع التحمل أكثر..   وبما أن القلوب تتراءى ونفَس الحق دائما أطول وأقوى فقد كان الحق مستعدا لتحمل الأذى في جسده، وفي نفسه، وفي عرضه الذي حافظ طيلة مساره الحياتي أن يبقيه نقيا كالثوب الأبيض..   قرر الباطل وضع حد لتحديات الحق له..   وكان -كما الآن- يتبنى لغة الحق ليحارب بها الحق، ويعلن إرادة الخير، والحفاظ على الدين، وعلى المجد، وعلى الأمة ? وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ? [القصص: 57]، ? إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ?[غافر: 26] ? لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ? [نوح: 23]...   لم تكن تمنع الباطل من اجتثاث الحق رحمة ولا بقية خير، ولكنه -كما الآن- وكما هو دائما كان يخشى من ردة الفعل التي قد يبديها المتعاطفون مع الحق مهما كانوا قليلين، ومهما كانوا ضعفاء..   وعلى الضفة الثانية لموج الصراع، كان الحق يطلب دائما الثبات عليه، ويرفع شعار السلمية بندا استراتيجيا في مواجهة الباطل واجتثاثه من أصله، أو تحييده عن مجرى الحق الذي ينوي التدفق فيه إن وجد الطريق...   كان الحق يعلن عن نفسه في صراحة، ويقدم نفسه بوضوح، وينصف بقوة، ويعترف بالآخر بشدة، ويمسح الطاولة دائما استعدادا للحوار وللحلول المشتركة التي لا تمس من الحق ولا تنتقصه، كما لا تقر الباطل ولا تجرح شعور أتباعه..   كان الحق يريد إحقاق الحق دون مس من نفسيات أتباع الباطل، ويقبل بكل حل يحق الحق ولا يثير حفيظة أهل الباطل، لا يريد أكثر من الحرية وإخلاء الطريق أمامه يقدم رؤيته فيقبلها الناس أو يرفضون، في مقابل إخلاء الطريق أمام الباطل لتقديم رؤيته دون إكراه أيضا، ولكل مجاله، وطريقه.   ? أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ? [يونس: 99]؟ ? أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ? [هود: 28]؟، ? قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ? [هود: 35]، ? وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ? [الأنعام: 108]، ? قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ? [سبأ: 50].   ? وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ? [سبأ: 24]، ? لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ? [سبأ: 25]، ? لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ? [الكافرون: 6]، ? كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ? [النساء: 77].   ورغم تعريض القرآن دوما لأهل الحق بالهجرة والتضحية بالأرض ? قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ? [الأنعام: 11]، ? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ? [يوسف: 109]؟ وأرض الله واسعة.. وبعد التضحيات الجسيمة ببعض الأنفس وكثير من الأموال.. وبأعز ما يملكه الإنسان الحرية، بدأ الحق يضيق ذرعا بتحرشات الباطل، وبدأ أتباعه يخرجون تباعا بعضهم إثر بعض...   وعلى حين غفلة من أهل الحق قرر الباطل (رسميا وبشكل قاطع، وفي حسد بيّنٍ، وأسلوب من الأنانية قذر) منعَ أهل الحق من الهجرة رغبة في ديمومة الظلام واستمرارية الجاهلية...   كانت الخطة تستبطن النفسية الجبانة المعهودة في أتباع الباطل في كل زمان، النفسية الجبانة التي لا تستطيع أن تعلن عن نفسها في الأوقات الحاسمة، ولا أن تعلن عن ما ترتكبه من جرائم تستحي من ارتكابها بشكل فردي لكنها تتعاون عليها جماعيا حتى يتفتت الجرم بين الناس تفتت الدم المهراق بين القبائل...   كانت الخطة بفكرتها الجبانة، وتنفيذها المرتجف، رغم القوة والقدرة.. التي يمتلكها الباطل أمام حفنة من الأشخاص عزل، لا ينوون الحرب، ولا ينجحون فيها -بمعايير الجاهلية- لو أقدموا عليها.   كانت الخطة هي اغتيال القائد المعلن عن نفسه المعلوم المكان الذي لم يختف ولم يختبئ، ولم يسئ إلى أحد ولم يعتد على آخر، لا أمرا ولا مباشرة، ولا تسببا حتى؛ ليس منذ أخذ رفع راية الحق بل قبل ذلك أيام كان يتأمل الجاهلية وباطلها بصمت..   ووصل الجبن بالباطل وأهله أن أرسلوا للمهمة عشرين شابًا مزودين بأمضى السيوف مضارب، وأقسى القلوب مجاسّ، وأكثر العواطف تبلدا، وأشد الأحاسيس تجمدا..   ورغم أن القائد بدون حرس ولا شهب فقد كانوا عشرين شابا من مشارب وأنساب شتى لا يوحد بينها سوى الحقد ولا يجمعهم سوى خبث الطوية، ونجاسة الباطن....   وعلى حين غفلة من المخططين والمنفذين جاء التدخل الإلهي، وآذن ذو العزة والجلال بنجاة المستضعفين، فأوحى إلى عبده ما أوحى..   فاختار المختار أن يتصرف في رمزية عميقة تنم عن رحمة بالسذج الشامتين، فذر حصيات من تراب تغرقهم في الخزي والهوان وهم المستعدون الجاهزون، وتوحي في نفس الوقت بالرحمة والشفقة ممن ردَّ عنهم ملك الجوال يتميز غيظا، ويشع استعدادا لإشارة إطباق الأخشبين على من لا يصلون في ميزان الملائكة درجة البهائم...   كانت هذه ساعة الصفر في هذه المرحلة من الصراع بين الحق والباطل، فانطوت صفحة لتبدأ أخرى..   كانت تلك المرحلة ذات اسم ووسم، والتي بعدها كانت ذات اسم آخر ووسم آخر..   خرج النور يشع يبرق ألقا، ويزهر نقاء، ويملأ الأرض نورا لا يحجبه النيران، وبقي الباطل في حفرة الخزي تعلوه الكئابة، وتصبغه الحسرة على ضياع فرصة كان يحاول فيها إطفاء النور بفيه، وحجبَ الشمس بغرباله، وسدَّ المزنِ بيديه...   وعبر امتدادات الجغرافيا، ومنحنيات الزمان لم يبق بيت مدر ولا وبر إلا بلغه هذا الأمر، إلا بيتا لم يبلغه الليل والنهار.. فضاعت فرصة ونجحت فرصة، وخسر قوم وربح آخرون.. والإنصاف خير لهم لو كانوا يعلمون...   وهكذا بقيت ذكرى الخيبة تلك حسرة وشجى في قلب كل شقي، ورحمة وذكرى في قلب كل مؤمن تقي...   فلا يعجبن امرأ إن اختار الباطل التشويش على الحق فيها.. فبينهما ثأر قديم... "
شارك المقالة:
15 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook