جدل السقاف عن قوله: السيد أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم مؤمن قريش
الكاتب:
المدير
-
"جدل السقاف عن قوله: السيد أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم مؤمن قريش بحث كتبه: حيدر عيدروس علي[1] المقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد: فقد اطلعتُ على مقالتين بعنوان: (السيد أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم مؤمن قريش)، كتبهما حسن علي السقاف، على صفحته المسماه: (السيد حسن السقاف)، في الفيس بوك، في يوم 3/ 5/ 2020م، وهو من آل البيت؛ الذين استوطنوا المملكة الأردنية الهاشمية، والانتماء لأهل البيت يُلزم المنتمي إليهم بالتخلق بأخلاق الطاهرين، من صدق اللسان وعفته، وسلامة القلب وطهارته، وتبعات هذا الطهر شديدة على النفوس، ولأجل ذلك اشتد على آبائنا التميز على الناس بهذا الفضل العظيم، مخافة أن يقصروا في تحمل تبعاته؛ فهم ينتمون لأهل البيت أيضًا، ولكنهم لما نشأوا في مجتمع ارتفع فيه شُطَّار القبائل، وجدوا في أخوالهم «الكواهلة» - على ضفتي النيل الأبيض من جهة الشمال - قومًا أهل مروءة تامة، وشجاعة ظاهرة، وكرم فياض، فعاشوا بينهم، وانتسبوا إليهم، ولم يأبهوا بالألقاب التي حفظها الناس لأهل البيت، مع احتفاظهم بشجرةٍ نسب معروفة، محفوظة لدى جهات شتى[2]. وقد قصدت بهذه التوطئة أن أدفع عن نفسي تهمة النَّصبِ وبغضِ أهل البيت، وأرجو ألا يُعتبر ذلك من المباهاة، فقد لامس قلبي أدبُ أبي سليمان الداراني[3]، الذي قال: لو اجتمع الناس كلهم على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما أحسنوا[4].اهـ. ولا شك أن بغض أهل البيت من دلائل النفاق، وكم غبطتُ الفرزدق[5]، بقصيدته الشاعرة، في مدحه للسيد الجليل؛ علي زين العابدين بن السبط الكريم الحسين رضي الله عنهما، التي قال فيها: مِنْ مَعشَرٍ حُبُّهُمُ دِينٌ وَبغـ *** ضُهُمُ كُفرٌ وقُرْبُهمُ مَنْجًى وَمُعْتَصَمُ وإني لأرجو أن يرحمه الله برحمة يتفيأ بها ظلال الفردوس بتلك القصيدة. ولا يفوتني أن أذكر اقتنائي لكتاب: تناقضات الألباني الواضحات للسقاف، بإشارة من شيخي الأستاذ الشيخ ياقوت الأنصاري الخزرجي[6]، منذ نحو ثلاثين سنة، فلما قرأته تعجبت لأسلوبه في اضطهاد المخالف، الذي ظهر في كتابة حروف الألباني بحجم صغير دقيق جدًّا، إمعانًا في ازدرائه، وهو أمر يستغرب وقوعه من مجادل عاقل، فضلًا عمن هو من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين تجب عليهم عزائم ونوافل الأخلاق الكريمة. وبعد سنوات من اطلاعي على كتاب السقاف المذكور علمت أن شيخي ياقوت جزاه الله خيرًا ألمح إلى ميول ظاهرٍ للسقاف نحو التشيع، ثم وقفت أخيرًا على المقالتين المذكورتين آنفا، بعنوان: «السيد أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤمن قريش» وما أشد حزني وأنا أرد على السقاف، في هذه المسألة التي أحزنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق الأمة في مواساته صلى الله عليه وسلم، خليفته الصديق رضي الله عنه، لما بكى عند مبايعة أبيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن بكاؤه رضي الله عنه إلا بسبب ما أثارته المبايعة من شجن دفين في حنايا صدره الأسيف، بتذكر حزن النبي صلى الله عليه وسلم على امتناع عمه أبي طالب من الاستجابة لطلبه صلى الله عليه وسلم بالنطق بكلمة التوحيد[7]. ووالله لولا الدفاع عن حياض السنة المطهرة، وعلمائها، لما تعرضتُ للرد على هذه المسألة التي حزن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحزن لحزنه الصديق رضي الله عنه، ولو ثبت عندي أن أبا طالبٍ مات مؤمنًا، فلن يكون السقَّاف أسعد بذلك مني. ولقد ركب السقاف في حجاجه حصانا أشكل العرج، لا يبلغ به في مضمار البحث غايته، وارتكز في جداله إلى ساتر ضعيف لا يقيه قصف الرماح، واتقى بكَنٍّ خفيف لا يستره من هوج الرياح، وها أنذا أكشف عن حجاجه السقيم، ومرائه العقيم، بعد أن بدت لي في جداله أربعة اتجاهات جعلتها في أربعة مباحث، في كل مبحث عدد من الوقفات والمسائل، ونهجت في ذلك المنهج التالي: منهج البحث: التزمت في هذا البحث من المناهج؛ التحليلي، والاستقرائي، والتاريخي، وفق الخطوات التالية: 1- قسمت أقوال السقاف، ومطاعنه إلى فقرات، بحيث لا تزيد الفقرة عن مطعن واحد، أختمها بلفظ انتهى، أو برمزها (.اهـ.)، وأنزلت كل فقرة في المبحث الذي يناسبها، واقتصرت من ذكره على لقب (السقاف). 2- رجعت إلى موضع الفقرة المحددة في مصدرها، ثم نظرت في علاقة الفقرة بالسياق، خاصة إذا تأكد لدي بأن جماع أقوال صاحب المصدر ينقض نقل السقاف. 3- نظرت في المواضع التي ورد فيها الحديث، أو القول، مستخدمًا طرق التخريج. 4- ترجمت بعض الأعلام المذكورين في البحث، حسب ما تقتضيه الحاجة، بالرجوع إلى كتب التراجم. 5- وثقت النقل من المصادر التي أعزو إليها، مع ذكر المواضع، وبيان الطبعات. أهداف البحث: تتمثل أهداف هذا البحث في الأمور التالية: 1- الدفاع عن الصحيحين، وخاصة صحيح البخاري، إذ تعدى السقاف على هذين الحصنين. 2- الدفاع عن علماء الأمة: ابن شهاب الزهري، وعبد الله بن الحارث النوفلي، والبخاري، وغيرهم. 3- الدفاع عن مناهج المحدثين، في التدوين ونقد وتمحيص الروايات. وعلى الله قصد السبيل، وبه البلاغ وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. المبحث الأول: استمالة القراء بزعم بغض الأُمويين لآل البيت بدأ السقاف مقالته الأولى بقوله: «أما السيد أبو طالب رضي الله عنه عَمُّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو عندنا مسلم مؤمن، من خيار الصحابة المدافعين عن الدِّين رضي الله عنهم، خلافًا لما أشاعه عنه الأمويون الذين زعموا بأنه لم يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ويجب التنبه لذلك جيدًا».انتهى. لقد أخذ السقاف بأقوال الشيعة، وعول على دعواهم بتأثير الدولة الأموية على العلماء بالترهيب تارة، وبالترغيب تارة أخرى، للخضوع إليهم، ولا يعقل أن يكون لتأثير الدولة الأموية، أو غيرها من دول الإسلام ما يحمل العلماء كافة على الإجماع على قبول باطل والإقرار به، مهما كانت شدة الترهيب، أو حلاوة الترغيب، هذا بالإضافة إلى أن أبا طالب قد مات قبل رسول الله صلى الله وسلم، ولم تكن الدولة الأموية قد ظهرت أصلا، كما لم نجد من متقدمي العلماء من السُّنَّةِ والشيعة كافة؛ من قال بموت أبي طالب على الإسلام، طيلة عهد الخلافة الراشدة، والعهود التالية إلا ما صدر من الشيعة في العهود المتأخرة، مما أشار إليه الحافظ ابنُ حجر، فيما سيأتي بيانه. وأسألُ السقاف: في أي كتاب من كتب الصحابة، التي جمعت فضائلهم وسيرهم وأيامهم ورد ذكر أبي طالب مقيدًا في خيار الصحابة؟ وأجزم بأنه لن يجده في أي كتاب من الكتب المعتمدة في ذكر الصحابة، فكتاب الإصابة في تمييز الصحابة الذي اعتمد عليه السقاف في بعض أقواله، إنما ألفه الحافظ ابن حجر لإثبات أو نفي صحبة الأعلام الذين ذكرهم في الكتاب، فلو أن الحافظ ابن حجر أثبت في الإصابة صحبة أبي طالب، لما احتاج السقاف لإثارة هذه المسألة، فالحافظ ابن حجر لم يترك نقلا؛ سواء بالإسناد الصحيح، أو الضعيف، أو ما دونه إلا أورده، في ذكر أبي طالب، وكان خلاصة الأمر عنده أنه ليس من الصحابة. ومعروف عند أهل العلم أن كتاب الإصابة هو خلاصة جملة من الكتب السابقة، التي دونت في معرفة الصحابة، وتراجم الرواة، منها على سبيل المثال لا الحصر؛ فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ)، والتاريخ الكبير للإمام البخاري (ت 256هـ)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ)، ومعجم الصحابة لعبد الباقي بن قانع (ت 351هـ)، ومعرفة الصحابة لأبي عبد الله محمد بن إسحاق بن مندة (ت 395هـ)، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم الحافظ الأصبهاني (ت 430هـ)، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، لأبي عمر ابن عبد البر (ت 463هـ)، وغير هؤلاء من العلماء، انتهاء إلى كتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير الجزري (ت 630هـ)، فكان كتاب الإصابة خلاصة تميزت بالأخذ من جميع هذه الكتب وغيرها، مع مزجها ببراعة الصيدلاني الماهر، بما جاء في غالب كتب الحديث المسندة التي ضمت في صفحاتها فضائل الصحابة، وذكر أيامهم وسيرهم. إن حصر أسماء الصحابة من عوامل حفظ الدين، لكونهم نقلة السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اعترف بذلك المستشرق اليهودي مرجليوث، فقال: «ليفخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم»[8]، ومرتبة الصحابي هي مرتبة من مراتب الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتمتع صاحبها بحصانة تامة من أن يطاله التجريح، فقد نهى صلوات ربي وسلامه عليه عن تجريحهم، والإساءة إليهم. وكان السقاف قد أشار - في مقالتيه - إلى اعتنائه بإخراج كتاب (أسنى المطالب في نجاة أبي طالب)، للشيخ أحمد زيني دحلان مفتي الشافعية، في القرن الهجري قبل الماضي، ولم أقف على ذلك الكتاب، غير أن بطلانه ظاهر في شذوذ عنوانه، كما هو الشأن في مقالتي السقاف المذكورتين، اللتين حاول السقاف بهما أن يستغل حب المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبتزهم في سلوانهم بحب عترته الطاهرة، إذ أن كل مسلم صادق في حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لن يكون نشيجه أخفى من هيام القائل: أمرُّ علَى الدِّيارِ ديارِ ليـلَى أُقبِّلُ ذا الجـــــــــدارَ وذا الجدارا وما حبُّ الديارِ شَغفنَ قلبِي ولكنْ حبُّ مَنْ سَكنَ الديارَا وقد دأب الشيعة على استمالة غيرهم بدعوى حب أهل البيت، وهو استغلال لعاطفة المسلمين المفعمة بحب رسول الله صلى عليه وسلم، وصنيعهم هذا أقرب للاستغفال، خاصة وأنه يرتكز إلى فرضية باطلة، بأن من لم يقر بالمسائل التي يرونها، كمسألة إيمان أبي طالب، وغيرها من مسائلهم، فهو ناصبي يبغض أهل البيت، وإني لأبرأ إلى الله أن أكون في ردي على السقاف منطلقًا من جَفوةٍ لأهل البيت، كما سبق أن بينت. كما أن إثبات لقب (مفتي الشافعية) على طرة كتاب الشيخ أحمد زيني دحلان، هو أيضا من السعي لاستمالة القراء بأن الشافعية يرون هذا الرأي، طالما قال به مفتي المذهب، بيد أن هذا لا يفوت بسهولة على أهل الفطنة، فإن الشيخ أحمد زيني دحلان وإن كان مفتيًا للشافعية في زمانه، فإنه لا يقاس بالحافظ ابن حجر، ولا الحافظ البيهقي، وهما من أركان المذهب الشافعي، وكتبهما مليئة بالإخبار بموت أبي طالب على دين قومه، بل إن الإمام الشافعي نفسه؛ هو أحد رواة الحديث الصحيح الذي يدل على موت أبي طالب على غير الإسلام، فيما يأتي بيانه في المبحث الثالث، وبهذا يصبح كتاب الشيخ دحلان، في داحول عميق[9]. وأرجو ألا يمر الوقت فيأتينا من يقول بنجاة أبي لهب، وهو الذي نفعه الله بفرحه بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتقه لثويبة رضي الله عنها[10]. المبحث الثاني: اجتزاء السقاف في النقل من المصادر التي نقل عنها: لقد أكثر السقاف من النقل عن أئمة أهل العلم ليقوم بحجته، فبدأ بمسألة إثبات مؤازرة أبي طالب ونصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنقل عن الإمام ابن سعد في الطبقات الكبرى، وعن الإمام القرطبي في التفسير، وعن الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، وعن الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وفي الإصابة، ونقله عن هؤلاء صحيح، في مناصرة أبي طالب لرسول الله صلى الله وسلم، وهي مسألة لم يخلف فيها العلماء أصلا، كما أنهم مجمعون على موته على غير الإسلام، بلا خلاف بينهم، إلا أن السقاف اعتاد أن يقف عند جملة، لا يساعده ما بعدها، ولا ما قبلها في تأييد حجته، وأستشهد لذلك بمسألتين: المسألة الأولى: نقل السقاف عن الحافظ ابن حجر أنه قال في الفتح (7/ 194): «... واستمر على نصره بعد أن بُعث، إلى أن مات أبو طالب، وقد ذكرنا أنه مات بعد خروجهم من الشِّعْب، وذلك في آخر السنة العاشرة من المبعث، وكان يذب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويرد عنه كل من يؤذيه،... ». أهـ. هكذا انتهى نقل السقاف عند كلمة (يؤذيه)، مع أن الجملة التي تليها مباشرة من كلام الحافظ ابن حجر، هي: «وهو مقيم مع ذلك على دين قومه»، وبهذه الجملة يتضح أن الحافظ ابن حجر يرى أن أبا طالب كان ينصر النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال السقاف، مع إقامته على دين قومه. المسألة الثانية: قال السقاف: «وقال ابن حجر أيضا: وأخباره في حياطته والذب عنه صلى الله عليه وآله وسلم معروفة مشهورة، ومما اشتهر من شعره في ذلك قوله: واللهِ لَنْ يصلُوا إليك بجمْعِهم *** حتَّى أُوَسَّــــــد في الترابِ دفينا وقوله: كذَبتُم وبيتِ اللهِ نبزي محمَّدًا *** ولـمَّا نقاتــل حوله ونناضلُ وهذا البيت يثبت أنه كان مؤمنًا، وأن بعض الناس من ذلك الزمن - أي في حياة أبي طالب - كانوا يحاولون أن يكذبوا؛ فيقولوا بأنه ينبز النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن معه في دينه. وتمام البيت الأول قول أبي طالب عليه السلام كما في الإصابة، للحافظ ابن حجر (7/ 236)، وتفسير القرطبي (6/ 406): واللهِ لن يصلوا إليك بجمْعِهم حتَّى أوَسَّد في الترابِ دفينَا فاصدعْ بأمرِك ما عليك غضاضةٌ وابشرْ بذاك وقرَّ منك عيونا ودعوتني وعلمتُ أنَّك صادقٌ ولقد صدقتَ وكنتَ ثَمَّ أمينا ولقد علمتُ بأن دينَ محمَّدٍ من خير أديان البريةِ دينا (انتهى) فأقول - وبالله التوفيق -: تأمل كيف جازف السقاف في تسخير الألفاظ، فإن الذين كذبوا، وردَّ عليهم أبو طالب كذبهم بأبيات من الشعر، هم مشركو قريش، ولعل السقاف يحاول أن يسقط كذبهم على المسلمين الذين نقلوا أخبارًا صحيحة في موت أبي طالب على غير الإسلام، وما هذا إلا من استخفاف القراء! وفي الموضع الذي أشار إليه السقاف، نجد أن الحفاظ ابن حجر، قال في الإصابة: «وأخرج ابن عدي[11]، من طريق الهيثم البكاء، عن ثابت، عن أنس، قال: مرض أبو طالب فعاده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي ادع ربك الذي بعثك؛ يعافني، فقال: «اللهم اشفِ عَمِّي»، فقام كأنما نشط من عقال، فقال يا ابن أخي إنَّ ربك ليطيعك! فقال: «وأنتَ يا عَمَّاه لو أطعتَه ليُطِيعنَّك». وفي زيادات يونس بن بكير في المغازي: عن يونس بن عمرو، عن أبي السفر، قال: بعث أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أطعمني من عنب جنتك! فقال أبو بكر: إنَّ الله حرمها على الكافرين. وذكر جمعٌ من الرافضةِ أنه مات مسلمًا، وتمسكوا بما نسب إليه من قوله: ودعوتني وعلمتُ أنك صادق ولقد صدقت فكنت قبل أمينا ولقد علمتُ بأن دين محمَّدٍ من خير أديان البرية دينا قال ابن عساكر - في صدر ترجمته -: قيل إنه أسلم، ولا يصح إسلامه[12].اهــ. ولقد وقفتُ - والكلام للحافظ ابن حجر - على تصنيفٍ لبعض الشيعة، أثبت فيه إسلام أبي طالب.اهـ. ثم ذكر الحافظ ابنُ حجر عدة أحاديث بأسانيدها، قال في الأخير منها: ومن طريق محمد بن زكريا الغَلَّابي، عن العباس بن بكار، عن أبي بكر الهذلي، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: جاء أبو بكر بأبي قُحافة، وهو شيخ قد عمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تركتَ الشيخَ حتى آتيه؟!» قال: أردت أن يأجره الله والذي بعثك بالحق لأنا كنت أشد فرحًا بإسلام أبي طالب مني بإسلام أبي، ألتمس بذلك قرة عينك. فقال الحافظ موضحًا: «وأسانيد هذه الأحاديث واهية، وليس المراد بقوله في الحديث الأخير إثبات إسلام أبي طالب، فقد أخرج عمر بن شبة، في كتاب مكة، وأبو يعلى، وأبو بشر سمويه، في فوائده، كلهم؛ من طريق محمد بن سلمة، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس، في قصة إسلام أبي قحافة، قال: فلما مد يده يبايعه بكى أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يُبكيكَ؟!» قال: لأن تكون يد عمك مكان يده، ويسلم ويقر الله عينك، أحب إليَّ من أن يكون! وسنده صحيح، وأخرجه الحاكم من هذا الوجه، وقال صحيح على شرط الشيخين»[13].اهــ. وكتاب عمر بن شبة النميري، الذي خرج منه الحافظ ابن حجر هذا الحديث؛ لم أقف عليه، وقد ترجمه ياقوت الحموي في معجم الأدباء، وذكر كتبه، ومنها؛ كتاب أمراء مكة، فلعله هو المقصود[14]، وقد جاء الحديث في مسند أبي يعلي مختصرا جدًّا، ولم أقف على فوائد أبي بشر إسماعيل بن عبد الله الأصبهاني الملقب سمويه ت 267هـ، ولكن أخرجه - من طريق أبي بشر سمويه - الحافظ ضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة، مختصرًا أيضا، ومن طريق أبي يعلى أخرجه الضياء في المختارة، وأخرجه أيضا ابن حبان في الصحيح، والحاكم مختصرًا كذلك، وصححه على شرط الشيخين، وقال الحافظ الذهبي: «على شرط البخاري»، وبهذا يظهر أن المتن غير المختصر في كتاب عمر بن شبة النميري ت 262هـ، وهذه من فوائد الحافظ ابن حجر لحفظه هذا المتن الرفيع، في كتاب الإصابة[15]. ومع كل هذه النقول الواسعة فالخلاصة أن أبا طالب لم يمت على الإسلام. وقادني نقل الحافظ ابن حجر لكلام الحافظ ابن عساكر المتقدم، إلى مراجعة تاريخ دمشق، فرأيت الحافظ ابن عساكر، قد أطال النفس في سرد الروايات في ترجمة أبي طالب، إلى أن ساق حديث ابن عباس، عن أبيه؛ في همس أبي طالب بكلمة الإخلاص، فقال عقبه: «هذا الحديث في بعض إسناده من يُجهل، والأحاديث الصحيحة تدل على موته كافرا»[16].اهــ. والحافظ ابن عساكر من كبار علماء الشافعية، ولا يقاس به دحلان ولا السقاف، ولا غيرهما من المعاصرين. أما إشارة السقاف إلى كلام الإمام القرطبي؛ فإن سياق هذه الأبيات قد جاء هكذا في تفسير القرطبي: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فأصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منك عيونا ودعوتني وزعمت أنك ناصحي فلقد صدقت وكنت قبل أمينا وعرضت دينا قد عرفت بأنه من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك يقينا وقد أعرض السقاف كعادته عن ذكر البيت الأخير، الذي أورده الإمام القرطبي في آخر الأبيات، وهو بيت يرد دعواه، وما أظن السقاف قد غفل عن تتمة ما أورده الإمام القرطبي رضي الله عنه، حيث ورد عقب هذه الأبيات مباشرة: «فقالوا: يا رسول الله هل تنفع أبا طالب نصرته؟! قال: نعم دُفع عنه بذاك؛ الغُلَّ، ولم يُقرن مع الشياطين، ولم يدخل في جُبَّ الحيات والعقارب، إنما عذابه في نعلين من نار في رجليه يغلي منهما دماغه في رأسه، وذلك أهون أهل النار عذابًا، وأنزل الله على رسوله: ? فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ? [الأحقاف: 35]، ثم أورد الإمام القرطبي حديثين في صحيح مسلم: أحدهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والثاني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، في موت أبي طالب وعذابه في النار[17]، وسيأتي ذكرهما في المبحث التالي. المبحث الثالث: طعن السقاف في الإمام الزهري، وفي عبد الله بن الحارث النوفلي، والرد عليه: وسأدحض هذين الطعنين بمناقشتهما في المسألتين التاليتين: المسألة الأولى: طعن السقاف في الإمام الزهري، والرد عليه: أقول وبالله التوفيق: إن الرد على هذه المسألة يأتي في وقفات ثلاث: الوقفة الأولى: اتهامه للإمام الزهري بكونه من الكذابين من أذناب الأُمويين: قال السقاف: «وإذا كان في نزول الأُولى نظر، فإن في الثانية نظرًا أيضًا، لأنهما في حديث واحد! وهذا يدلنا على تلاعب الأمويين أعداء آل البيت، أو أحد أذنابهم من الرواة، ووضعه لهذه القصة المكذوبة، والخرافة الممجوجة، على أنها أمر ثابت، والظاهر أن هذا الراوي هو الزُّهْري أحد رواته». انتهى. أقول: إن هذه الفقرة فيها مطعنين، المطعن الأول في الإمام الزهري، وهو ما سأدفعه في هذا الموضع، والمطعن الثاني في صحيح البخاري، وسأذكره في الرد على الطعن في صحيح البخاري. أبدأ أولًا بالتعريف بالإمام الزهري، فأقول: هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، أبو بكر القرشي، أدرك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك، وسهل بن سعد، وعبد الرحمن بن أزهر، ومحمود بن الربيع الأنصاري، وروى عن عبد الله بن عمر نحوًا من ثلاثة أحاديث، وروى عن السائب بن يزيد، متفق على جلالته وإتقانه[18]. روى الحافظ ابن عساكر من طريق الحافظ البيهقي، بسنده عن ابن شهاب الزهري، قال: «قدمتُ دمشقَ وأنا أريد الغزو، فأتيت عبد الملك لأُسلِّم عليه، فوجدتُه في قبةٍ على فرش يفوق القائم، والناس تحته سماطان، فسلَّمتُ وجلست، فقال: يا ابن شهاب أتعلم ما كان في بيت المقدس صباح قُتِل ابن أبي طالب؟ قلتُ: نعم، قال: هلم! فقمت من وراء الناس حتى أتيت خلف القبة، وحول وجهه فأحنى علي، وقال: ما كان؟ قال: فقلتُ: لم يرفع حجر في بيت المقدس إلا وُجِد تحته دم، قال: فقال: لم يبق أحد يعلم هذا غيري وغيرك، فلا يُسمعَنَّ منك، قال: فما تحدثتُ به حتى توفي، قال الحافظ البيهقي: وروي بإسناد أصح من هذا عن الزهري، أن ذلك كان في قتل الحسين[19]. ولو كان الزهري ممن باع دينه بدنياه، أو بدنيا غيره، لوسعه أن يسكت، وينتظر قول عبد الملك بن مروان، ولكنه لما جاء بنية الغزو، ما كان ليهاب عبد الملك، وهو ينوي الجهاد والغزو في سبيل الله، وإجابته لعبد الملك في الذي وقع بعد مقتل سيدنا الحسين رضي الله عنهما كما رجح الحافظ البيهقي، فيها دلالة على صلابته وقوته، في مسألة لم يعلمها أحد غيرهما - على قول عبد الملك بن مروان -، ولو كان ذنبًا لوسعه السكوت، وهي في فضائل أهل البيت، فكيف يقال بأنه لم يرو لهم فضيلة؟! وقد أجمع علماء الأمة على عدالة الزهري وإمامته، إلا ما كان من أكاذيب لفَّقها الرافضة ممن لا يؤبه لقوله، من الكذابين، كأبي القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي[20].اهـ. وقد ثبت لدي في هذا المقطع أن السقاف ينقل من كتاب أبي القاسم البلخي الكذاب، ولا يعتبر بـ تاريخ دمشق، ولا بـ تهذيب الكمال، ولا بـ سير أعلام النبلاء، ولا بـ البداية والنهاية. قال أبو القاسم البلخي: وحدَّث - أي الزهري - الوليدَ بن عبد الملك، عن قبيصة بن ذؤيب، عن المغيرة بن شعبة، أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تُناشِدوا الخلفاء بالله، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال: على ابن شهابٍ لعنةُ الله، أما سمع أخا خُزاعةَ يقول: اللهم إني ناشد محمدًا، فيناشد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يناشد الوليد بن عبد الملك؟! قال: وقدم على عمر بن عبد العزيز فأخرجه من عسكره من أجل ما كان سمع منه هذا الحديث ولتنقصه عليًّا، وكان عمر كافًا عن علي رضي الله عنه، وكان نافع يقول: إن الزهري سمع أحاديث ابن عمر مِنىِّ فلقي سالمًا، فقال: هذه أحاديث أبيك؟ قال: نعم، فرواها عن سالم وتركني»[21]. وهذا النص باطل من أوجه ثلاثة: الوجه الأول: قال السقاف: « وحدث الوليد بن عبد الملك، عن قبيصة بن ذؤيب، عن المغيرة بن شعبة، أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تناشدوا الخلفاء بالله»، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب، فقال: على ابن شهاب لعنة الله، أما سمع أخا خزاعة يقول: اللهم إني ناشد محمدًا، فيناشد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يناشد الوليد بن عبد الملك؟!». فهذا القصة سرقها أبو القاسم البلخي من كتاب المعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان البسوي، وغير في إسنادها ومتنها، فقد أخرجها البسوي في كتابه المذكور، في ذكر قبيصة بن ذؤيب، ومن طريق البسوي أخرجها الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، في ترجمة عمران بن أبي كثير؛ قال يعقوب: قرأت على محمد بن حميد، حدثكم سلمة، وعلي، عن ابن إسحق، قالا: عن عمران بن أبي كثير، قال: قدمت الشام، فإذا قبيصة بن ذؤيب قد جاء برجل من أهل العراق، فأدخل على عبد الملك بن مروان، فحدثه عن أبيه، عن المغيرة بن شعبة، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الخليفة لا يناشد»، قال: فكُسِيَ وأُعطِيَ وحُبي، قال: فحك في نفسي شيء، فقدمت المدينة، فلقيت سعيد بن المسيب، فحدثته، فضرب يده بيدي، ثم قال: قاتل الله قبيصة، كيف باع دينه بدنيا فانية، والله ما من امرأة من خزاعة قعيدة في بيتها إلا قد حَفِظتْ قول عمرو بن سالم الخزاعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني ناشد محمدًا *** حلفَ أبينا وأبيه الأتلدا أفيناشد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يناشد الخليفة؟! قاتل الله قبيصة كيف باع دينه بدنيا فانية[22]؟! هكذا وقع الإسناد في تاريخ دمشق، مستقيمًا عن يعقوب: قال قرأت على محمد بن حميد حدثكم سلمة، وعلي، عن ابن إسحاق عن عمران بن أبي كثير، فذكره، ووقع في النسخة المطبوعة من كتاب المعرفة والتاريخ ليعقوب: قرأت على محمد بن حميد، حدثكم سلمة، وعلي بن إسحق، قالا: عن عمران بن أبي كثير، قال: قدمت الشام، وهو خطأ يغلب على الظن أنه من النساخ. وقبيصة بن ذؤيب، له رؤية، وكان من الربانيين، وذكر يعقوب البسوي روايات صحيحة في الثناء عليه، إلا أن هذه الرواية التي أخرجها، ومن طريقه الحافظ ابن عساكر؛ ضعيفة جدًّا، رواها يعقوب؛ عن محمد بن حميد، وهو: الرازي أحد المتروكين، وقد رمي بالكذب، مع سعة حفظه[23]. عن سلمة بن الفضل، وهو: شيعي، متهم بالكذب أيضا[24]، وتابعه علي، كما في تاريخ دمشق، ولم أعرفه، عن محمد بن إسحاق، وهو ابن يسار وهو: إمام المغازي المعروف، عن عمران بن أبي كثير، وهو: مجهول لا يعرف، كما قال الحافظ الذهبي في الميزان[25]، ومع هذا الضعف الظاهر فقد أخذها أبو القاسم البلخي، وغيَّر في إسنادِها، وركبَّها على الزهري رحمه الله؟ ويظهر تلفيق أبي القاسم في إسناد هذه القصة، فإنه جعل القدوم على الوليد بن عبد الملك، بينما في كتاب البسوي والحافظ ابن عساكر كان القدوم على عبد الملك بن مروان، وقبيصة من أقران عبد الملك بن مروان، فعبد الملك توفي في سنة ست وثمانون، وقبيصة توفي في بعض وثمانين، أي قبل وفاة عبد الملك أو نحوها، والوليد استخلف بعد موت أبيه، ولم يدرك قبيصة خلافة الوليد. والأمر الثاني: أن الذي أُدخل على عبد الملك في رواية يعقوب البسوي؛ رجل من أهل العراق، وليس هو الإمام الزهري، كما قال أبو القاسم الكذاب البلخي، إذ الزهري من أهل الحجاز، واتفاق مجيء الحديث عن المغيرة بن شعبة، بهذا النحو يكشف عن سرقة البلخي التي يتعذر معها القول باحتمال وجود روايتين متعارضتين. ونقل السقاف لها يكشف عن ضعف تحريه في النقل، ويوجه إليه سهاما تضر بعدالته، فهو يكذب الصادقين، ويصدق الكذبة المنحطين من أمثال أبي القاسم البلخي. الوجه الثاني: قال السقاف: «وقدم على عمر بن عبد العزيز، فأخرجه من عسكره، من أجل ما كان سمع منه هذا الحديث، ولتنقصه عليًّا، وكان عمر كافًا عن علي رضي الله عنه». اهـ. هذا القول أخذه السقاف من كتاب قبول الأخبار ومعرفة الرجال لأبي القاسم البلخي، عقب الموضع السابق مباشرة[26]، وقد بينت كذبه، فإذا تبين الكذب في الحديث، فإن هذه أيضا من الكذب، ولقد كان الإمام الزهري حظيًّا عند عمر بن عبد العزيز، ذكر الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، أن عمر بن عبد العزيز أمر الزهري بجمع الحديث[27]، ولو لم تكن له مكانة رفيعة عنده لما أمره بهذا العمل الجليل. وقد أجمع أهل السنة على إمامة الزهري، وهو شيخ الإمام مالك، الذي عرف بانتقاء الشيوخ، ورواية الإمام مالك عن الإمام الزهري لا تفوقها في الكثرة غيرها من الروايات في الموطأ، والناظر في ترجمة الإمام الزهري في كتاب أبي القاسم البلخي، يجد من الأكاذيب على الإمام مالك، ما يستحق أن يلعن بسببها أبا القاسم البلخي، وهو كتاب ملئ بالكذب على الأئمة، والاتجاه لهدم الزهري اتجاه لهدم الموطأ، وهو أحد دواوين الإسلام المهمة التي ينبغي ألا يجامل أحد في الطعن فيها. وهو كذلك اتجاه لهدم صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وغيرهما من دواوين السنة الشريفة. وأما القول بأن الزهري كان ينتقص عليًّا فهذا أيضا من الكذب، إذ أن الزهري لم تثبت فيه تهمة بالنصب في كتب تراجم الرواة، والقول بأنه ينتقص عليًّا رضي الله عنه قول باطل من كذب أبي القاسم البلخي، ولكنني بعد تأمل وجدت خبيئة حملت الرافضة على بغض الزهري، فالزهري هو الذي روى حديث: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم»، وهذا الحديث أخرجه الأئمة من أوجه، مختصرة وأخرى مفسرة، فقد قال الإمام البخاري في الصحيح: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريجٍ، عن ابن شهابٍ، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرثُ المسلمُ الكافر، ولا الكافرُ المسلمَ»[28]. وقد أجمع سائر أصحاب الكتب الستة على هذا الحديث من طريق الزهري، بذات الإسناد، وفيه علي بن حسين، وهو من فضلاء أهل البيت، كما أخرجه الإمام مالك في الموطأ، والإمام أحمد في المسند، وهو في مسند الإمام الشافعي[29]. وقد ورى الإمام البخاري هذا الحديث من وجه آخر، فقال: «حدثنا أصبغ، قال: أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أنه قال: يا رسول الله أين تنزل في دارك بمكة؟ فقال: «وهل ترك عَقِيل من رباع أو دور؟! »، وكان عَقِيل ورث أبا طالب هو وطالب، ولم يرثه جعفر ولا علي رضي الله عنهما شيئًا، لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين[30]. وهذا أقوى دليل على أن أبا طالبٍ مات على غير الإسلام. الوجه الثالث: كيف يلعن سعيد بن المسيب الزهري، وهو أحد المكثرين عنه، وهو الذي روى عنه العلم، وقد لزمه ثماني سنين[31]؟ كما أن قول أبي القاسم البلخي، عن نافع، بأن الزهري روى عن سالم، ما كان سمعه من نافع، لم يرد في أي كتاب من كتب الجرح والتعديل، ولا كتب التراجم والسير والطبقات، وهو من أكاذيب أبي القاسم البلخي، التي لا تقبل عند المنصفين! الوقفة الثانية: انتفاء الافتراء على الزهري، بوجود شواهد صحيحة لما رواه في موت أبي طالب: ومع ما تقدم فإن الأحاديث الدالة على موت أبي طالب على غير الإسلام، جاءت عن غير الزهري، وهي أيضا من أحاديث الصحيحين، ولأجل ذلك يجتهد الرافضة ومن تبعهم في الحط من الصحيحين، خاصة صحيح البخاري، ولن يستطيعوا مهما بلغ بهم الدهاء أن يصفوا كل هذا الجمع من العلماء الأكارم بالجبن والمداهنة والكذب، وممالأة بني أمية، ومعاداة أهل البيت. فقد أخرج الإمام البخاري في ذات الموضع حديثًا قال فيه: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثنا عبد الملك، حدثنا عبد الله بن الحارث، حدثنا العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: «هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار». ثم كرره من وجه آخر عن موسى بن إسماعيل، عن أبي عوانة[32]. وأخرجه الإمام البخاري من وجه آخر في باب: قصة أبي طالب أيضا، فقال: حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثنا ابن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذكر عنده عمه، فقال: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار، يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه»، حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا ابن أبي حازم والدراوردي، عن يزيد، بهذا، وقال: «يغلي منه أم دماغه»[33]. وهو ما أخرجه في كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، فقال: حدثنا إبراهيم بن حمزة، حدثنا ابن أبي حازم، والدراوردي، عن يزيد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر عنده عمه أبو طالب فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار، يبلغ كعبيه، يغلي منه أم دماغه[34]. وأخرج مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان النهدي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه[35]. وأخرج الإمام مسلم حديثا آخر، فقال: حدثنا محمد بن عباد، وابن أبي عمر، قالا: حدثنا مروان، عن يزيد وهو ابن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه عند الموت: قل: لا إله إلا الله؛ أشهد لك بها يوم القيامة، فأبى، فأنزل الله: ? إنك لا تهدي من أحببت ? الآية. ثم قال الإمام مسلم: حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا يزيد بن كيسان، عن أبي حازم الأشجعي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: قل: لا إله إلا الله، أشهد لك بها يؤم القيامة، قال: لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله، على ذلك، الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله: ? إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ?[36]. فهذه أحاديث صحيحة عن أربعة من الصحابة رضي الله عنهم، لم ترد من طريق الزهري، وبهذا يتبين أن الزهري لم يتفرد بهذا الحديث، ولو أنني تتبعت هذا الحديث في دواوين السنة لطال استخراج الأوجه، ولتعذر حصر رواته، وهذا لا يساعد على إسقاطه البتة. والسقاف لا يجهل المتابعات والشواهد كما أسلفت، وحتى لا يؤتى من هذا الجانب فقد طعن في الحديث الأول، وهو حديث العباس رضي الله عنه، باتهام عبد الله بن الحارث، وسيأتي كشف ذلك في المسألة التالية من هذا المبحث. وطعن في الحديث الثاني، وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، بلمز عبد الله بن خباب، وسأناقشه في الوقفة الثالثة من المسألة الرابعة في المبحث الرابع، إن شاء الله تعالى. وعارض حديث ابن عباس رضي الله عنهما باختلاف الرواة عن حماد بن سلمة، وهي معارضة غريبة عجيبة، فحديث حماد بن سلمة حديث آخر، لم يكن مداره على حماد بن سلمة، بل هو إسناد آخر، سيأتي دحض الاحتجاج به في المسألة الثانية التالية، والسقاف لا يجهل ذلك، ولكنه يتعنت ويجازف، ويستخف القراء. وما أدري لماذا توقف عن الطعن في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أم أنه جهله؟ علما بأن هذه الأحاديث الأربعة لم يقدح فيها علماء العلل، وهي عندهم من أصح الأحاديث الخالية من الشذوذ والعلة. الوقفة الثالثة: اعتماد السقاف على رواية مكذوبة على الزهري: قال السقاف: روى ابن عساكر في تاريخه (42/ 228)، وهو في مختصر ابن عساكر لابن منظور (5/ 393): قال جعفر بن إبراهيم الجعفري: كنت عند الزهري أسمع منه، فإذا عجوز قد وقفت عليه، فقالت: يا جعفري لا تكتب عنه، فإنه مال إلى بني أمية وأخذ جوائزهم، فقلت: من هذه؟ قال: أختي رقية خرفت، قالت: خرفت أنت، كتمت فضائل آل محمد، قالت: وقد حدَّثني محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد علي، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله....[37].اهـ. وقوله: وهو في مختصر ابن عساكر لابن منظور (5/ 393)، تزيد لا فائدة فيه البتة، قد بدأت أول ما بدأت بالنظر في القول المنسوب لجعفر بن إبراهيم الجعفري: (فإذا عجوز قد وقفت عليه، فقالت: يا جعفري لا تكتب عنه،...)، ثم سؤال جعفر عنها: (من هذه؟)، وقول الزهري: (أختي رقية خرفت)، وفي هذا دليل على أن جعفر بن إبراهيم الجعفري لا يعرفها؟ فكيف عرفته وهي عجوز مخرفة؟ وما هذا إلا من نسج أحد الكذابين، من رواتها، ممن سيكشف عنه البحث! وبعد البحث عن رقية أخت الزهري، لم أقف على ذكر لها في كتب الرواة البتة، لا في الرواة عن محمد بن المنكدر، ولا عن غيره، بل لم أقف لها على خبر مسند، إلا في هذا الموضع من تاريخ دمشق، بل لم أقف على رواية محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، لهذا الحديث، إلا في تاريخ ابن عساكر. وكان الحافظ ابن عساكر قد ساق هذه القصة، في ترجمة سيدنا علي رضي الله عنه، التي وقعت في المجلد الثاني والأربعين من تاريخ دمشق بأكمله، وفيها هذا الحديث برواية ابن عساكر، عن أبي القاسم زاهر بن طاهر، أنا أبو سعد محمد بن عبد الرحمن، أنا السيد أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين، نا سليمان بن أحمد الحافظ، نا محمد بن إسحاق الحافظ، نا إسماعيل بن أبي أويس، نا جعفر بن إبراهيم الجعفري، قال كنت عند الزهري، فذكر قصة رقية، ثم ساق الحديث عنها، عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه. ثم ساق الحافظ ابن عساكر بذات الإسناد حديثا آخر إلى جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ولم أقف على هذا الحديث من رواية ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، لا من رواية رقية المزعومة، ولا من رواية غيرها، عنه، إلا في تاريخ دمشق. وقادني هذا للنظر في تراجم رواة إسناد هذين الحديثين: فأبو القاسم زاهر بن طاهر من المكثرين في الرواية، لكن تكلموا في تدينه، لتلاعبه بالصلاة[38]. وأبو سعد محمد بن عبد الرحمن هو الكنجروذي، وهو من الثقات، من أهل المعرفة والدراية[39]. والسيد أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين، ذكر الحافظ الذهبي فيه جملة من الخصال الحميدة ووصفه بكثرة العبادة والزهد والصدق، ونقل عن الإدريسي، أنه قال: يحكى عنه أنه جازف في آخر عمره في الرواية[40].اهـ. أما سليمان بن أحمد الحافظ، فهو ابن أحمد بن يحيى الملطي، ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، وذكر أنه روى عن محمد بن إسحاق الحافظ، وروى عنه أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين العلوي[41]، وذكره الحافظ الأمير ابن ماكولا في الإكمال، في باب: المصري والمضري، وأورده في المضري بالمعجمة، وقال: يتهم بالكذب، لا يوثق بما يرويه[42]، وذكره ابن جميع الصيداوي في معجم شيوخه، وروى عنه فيه، مع البراءة عن عهدته[43]، فالتبعة في هذين الحديثين، وفي الحكاية عن رقية أخت الزهري المزعومة، على سليمان بن أحمد بن يحيى الملطي الحافظ، وكل ذلك من الأكاذيب التي عول عليها السقاف في الحط على إمام جليل أجمع العلماء على إمامته. المسألة الثانية: طعن السقاف في عبد الله بن الحارث النوفلي، والرد عليه: قال السقاف في المقالة الثانية: أما حديث عبدالله بن الحارث، الذي فيه سؤال العباس رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ما أغنيت عن عمك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (هو في ضحضاح من النار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)، فمردود بكون عبدالله بن الحارث أُموي، وبأن رواية ابن سعد لهذه القصة في طبقاته (1/ 125) مغايرة لذلك! وهي بلفظ: أن العباس رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما ترجو لأبي طالب؟! قال: (كل الخير أرجو من ربي). ورجاله رجال الصحيح.اهـ. والحديث الذي طعن فيه السقاف بأموية عبد الله بن الحارث، تقدم ذكره في المسألة الأولى في الدفاع عن الإمام الزهري، وقد أورده السقاف هنا للطعن في عدالة عبد الله بن الحارث بن نوفل. وعلى أهلها تجني براقش، فإن عبد الله بن الحارث، هو ابن الحارث بن نوفل الهاشمي النوفلي، فهو هاشمي نوفلي، ولا يضره أن تكون أمه أُموية، وهو من الثقات المجمع عليهم، وقد كان أميرًا على البصرة، ولنزاهته وتوافق أهل البصرة عليه، أقره على إمارتها عبد الله بن الزبير، وابن الزبير من أكبر خصوم بني أمية. وعبد الله بن الحارث، مع كونه من الهاشميين، فإن له رؤية، فكان حقه على السقاف التوقير لأجل هذه الكرامة[44]. بل إن هذا يدل على أن قريشًا تظل معدن السلامة، مهما تباعدت بها الخلافات، فهم قوم لا يعرف الحقد الدفين سبيلا إلى ديمومة الخصام بينهم، ولأجل ذلك اختارهم الله، فاختار منهم رسوله صلوات ربي وسلامه عليه، ومما يجدر ذكره هنا أن عقيل بن أبي طالب كان زوجا لفاطمة بنت عتبة بن ربيعة، أخت هند بنت عتبة، وقد حدث بينهما شجار مما يحدث بين الزوجين، فبعث أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، للحكم بينهما، في قصة لا يعرف جمالها من كانت نفسه بغير جمال[45]. وقد طعن السقاف في رواية عبد الله بن الحارث، بمعارضة رواية ولده إسحاق بن عبد الله بن الحارث، عند ابن سعد، فإذا كانت الأموية مطعنًا في عبد الله، فكيف سلم منها ولده إسحاق، فإن هذا الحديث رواه ابن سعد في الطبقات، فقال: أخبرنا عفان بن مسلم، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، قال: قال العباس: يا رسول الله أترجو لأبي طالب؟! قال: كل الخير أرجو من ربي[46]. وفوق كل ذلك فرواية إس"
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.