تبصير الحاذق فيمن أصيب من العلماء والصالحين وهو صادق

الكاتب: المدير -
تبصير الحاذق فيمن أصيب من العلماء والصالحين وهو صادق
"تبصير الحاذق فيمن أصيب من العلماء والصالحين
وهو صادق

 

مما لا شك فيه أن الابتلاء سُنة ماضية، يبتلي الله مِن عباده مَن كان له أطوع، ولدينه أسرع، وأن الابتلاء إنما هو امتحان وتمحيص، أو رفْع درجة وزيادة إيمان، وقد ابتلى الله على مرِّ الدهور والعصور مَن هو أفضل عبادِه، وأطهر أوليائه، وهم الأنبياء والعلماء والصالحون، فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، ولقد كان الدافع لهؤلاء الأنبياءِ والعلماء والصالحين على التمسُّك بالحق، والدفاع عنه، مع ما يلاقونه من إيذاء شديد، وابتلاء عظيم، وصبرهم على المحن والبلايا - إنما هو الصدق، والإخلاص في الدين، وإرضاء المولى - سبحانه - قال تعالى: ? وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ ? [الأنعام: 34].


والذي يستعرض سِيَرَ الأنبياء والعلماء، يجد أن ما أُصيبوا به من بلاءٍ إنما هو بسبب صدقهم، وقولهم الحقَّ، وثباتهم عليه في جميع المواطن والمواقف؛ بل حتى في أحْلك الظروف وأصعب المواقف، ولأن الإنسان يمكنه أن ينجوَ من ألم الابتلاء بأن يكذب - أقصد هنا: الكذبَ المنافي للصدق في القول والعمل من جميع جوانبه، لا المعاريضَ أو الكذب المباح[1] - فيكون في عافية من ألم العقاب؛ لكنه حتمًا سيخالف الشرع وما أمر الله به، وربما داهن ووافق أهلَ الباطل في باطلهم، إلا أن يكون مكرهًا؛ قال - تعالى -: ? مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ? [النحل: 106].


وقد دفعني إلى كتابة هذا المقال وتسطيره وترتيبه قبل ذلك في البال - جملةُ أسباب:

منها: أني رأيت أن من يمارس الكذبَ يُكرَّم ويبجَّل، ومن يصدق يُهان ويُبعَد، فقلت في نفسي: عجبًا! هل انقلبت الموازين، وتغيَّرت القوانين، وأصبح الكذب منقبة وفضيلة، والصدقُ قبحًا ورذيلة؟! فلما قرأت سيرة العلماء الربانين، والأئمة الصالحين، رأيت أني لست بدعًا منهم؛ بل هم أصدق علمًا وعملاً ودعوة مني، ومع ذلك أصابهم ما أصابهم من بني جنسهم من الإبعاد والطرد، وربما الحرمان من كثيرٍ من الأمور، وربما القتل والموت، وما زادهم ذلك إلا صلابةً في دينهم، وتمسُّكًا بما يدينون به من الحق، وصدَقَ رسولُنا الكريم إذ يقول: ((سيأتي على الناس سنواتٌ خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة))، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة))[2].


وربما يكون ما نعيشه اليوم من وقائعَ وأحداثٍ ينطبق عليه قولُ رسولنا الحبيب، هذا الذي ذكرناه، وحينئذٍ تعظم المصيبة، ويزداد البلاء، ويحتاج المؤمن رصيدًا قويًّا من الإيمان العميق، والاتِّصال الوثيق بالله؛ ليحمله على الصبر والتصبر، والله المستعان.


والأمر الثاني: انتشار بعض العبارات في عصرنا الحاضر من عموم كثير من الناس، مفادها أن الصادق لا يمكنه أن يعيش في خضم تلك الظروف، وإن عاش فهو مكروهٌ غير محبوب، وكيف له أن يعيش وهو يخبر بالحق المطابق للواقع، المخالف لأهواء الناس ورغباتهم؟! وأن الدولة إنما هي اليوم لمن يتحايل ويكذب، ويمكر ويخادع ويَسُبُّ، وأن السياسة مياسة كما يقولون، ومن أحبَّ أن يكون في بحبوحةٍ من العيش الرغيد، ومن المقرَّبين لدى أهل الغَناء والثروة والجاه والسلطان السعيد، فعليه أن ينافق - إن صح التعبير - ويداهن على حساب ما يعتقده من الصواب المطابق للحق (هناك فرق بينه وبين المداراة من أجل الحفاظ على ثوابت الإسلام، حسب الظروف والأحوال والبلدان[3])، وهو فوق أنه مخالف للواقع، ومغاير لسنن الله، فإن فيه إساءةَ الظن بالله - سبحانه - إذ كيف يمكن أن يديل الله الباطل على الحق، ويجعل له الصولة والاستمرار، والدولة والاستقرار؟! وقد أثبتت التجارِب أن الكاذب لا بد أن يفتضح أمرُه، وينكشف سترُه، وأن الصادق لا بد أن يجد من الله تأييدًا، ومن الخلق محبة وتمجيدًا.


والأمر الثالث: أن هذا المقال فيه تسلية للصادقين من العلماء والدعاة، وأن صدْقهم مع الله ومع أنفسهم والناس مآلُه إلى خير، وأن العاقبة لهم عاجلاً أم آجلاً، ولو بعد الموت، فكم سمعنا من دعاة الحق، وأرباب الصدق، من كانت جنازته مشهودة، وسيرته محمودة، وإنه يستحيل أن يجعل الله الدولة للباطل أبد الآبدين، وإن حبل الكذاب قصير، وإن كذبه وخيانته ستؤدي به إلى السعير، كما يقولون.


إن كل مَن يتأمَّل سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يجد أن الرسول - وهو الصادق المصدوق، وهو أكرم خلق الله أجمعين - تعرَّض لأشد أنواع البلاء، ومن كل أنواعه وأشكاله وأصنافه[4]؛ بل لم يتعرض نبيٌّ ولا ولي لمثل ما تعرض له رسولنا الكريم من البلاء، مع ما يحمله في نفسه من أعظم أنواع الصدق وأقواه، صدق مع ربه ونفسه وأهله، والناس أجمعين، وقد كان يعامل خلْق الله بما أمره الله أن يعاملهم به، من الصفح والتجاوز أحيانًا، ومن الصبر وكظم الغيظ أحيانًا أخر، وهم يعلمون صدْقه وأمانته، وعفَّتَه وديانته، وخلُقَه وشهامته؛ بل كان البلاء ما يزيده إلا انشراحًا وإشراقًا، ونورًا وحلمًا، وصبرًا وسخاء، لم يحمله البلاء - بأبي هو وأمي - ولا مرةً واحدة على الكبت، أو الحزن، أو اليأس، أو مخالفةِ الشرع وسلوك طريق في الدعوة غير ما أمره الله به؛ بل كان الحزن والتأسف هو لعدم طواعيتهم لما يأمر به، ويدْعوهم إليه؛ قال - تعالى -: ? قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ? [الأنعام: 33]، قال ابن كثير في تفسير الآية: يقول تعالى مسليًا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في تكذيب قومه له، ومخالفتهم إياه: ? قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ?؛ أي: قد أحطنا علمًا بتكذيبهم لك، وحزنك وتأسفك عليهم، كقوله: ? فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ? [فاطر: 8]، كما قال - تعالى - في الآية الأخرى: ? لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ? [الشعراء: 3]، ? فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ? [الكهف: 6].


وقوله: ? فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ?؛ أي: لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر ? وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ?؛ أي: ولكنهم يعاندون الحق، ويدفعونه بصدورهم[5].


تكذيب الصادق أمر مؤلم جدًّا:

ولا شك أن تكذيب الإنسان وهو صادق، محبٌّ لدينه ووطنه، يحمل الخيرَ لبلده، ولبني جنسه من البشر؛ بل إيذاءه وإهانته؛ بل طرده ونفيه؛ بل وقتْله وتعذيبه - أمرٌ يؤلم الإنسانَ ويحز في نفسه، ويولِّد شعورًا ممزوجًا بين الحسرة والإحباط، وألم الخوف والفوات، وهو يرى أهل الكذب والنفاق يُكرَّمون غاية الإكرام؛ بل ويقرَّبون ويبجَّلون، ولعل الكثير منهم لا يهمه أمر بلده ووطنه وبني جنسه، بينما من يريد الخير، ويحب إيصالَه إلى جميع البرية، مهانٌ ومطرود، هذا الأمر لا يصبر عليه إلا مَن آتاه الله اليقين والعلم والصبر والتقوى، ومن كانت صلته بالله وثيقة، وعلاقته بالله متينة.


ومن يتأمل سيرة الصحابة الكرام، ومن بعدهم من التابعين، أمثال أبي حنيفة والإمام مالك والشافعي، عُذِّبوا في سبيل الله، فما زادهم إلا صدقًا ويقينًا، ثم الإمام أحمد إمام أهل السنة والأثر[6]، تحمل من مرِّ العذاب، وحرِّ السياط، وألم الإبعاد، وهو يرى من يكذب ويتحايل على شرع الله من مخالفيه؛ بل من يريد الكيد لأولي الأمر، يُكرَّم ويعطى، وهو يُحرَم ويهان، فلم يزدْه ذلك إلا يقينًا وصبرًا على ما هو عليه، حتى كانت له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، وكأن البلاء الذي أصيب به هو وسام وشرف، ورفعة وسؤدد، رفع الله به ذِكرَه، وأعلى به مقامه، فإذا ذُكر الأثر والحديث فثمَّ الإمام أحمد - رحمه الله - ثم من بعده الإمام ابن تيمية - رحمه الله - فإنه لم يعرف من بعد الإمام أحمد ما حصل لشيخ الإسلام من السجن والتضييق والإهانة، والمنع من الفتوى والتعذيب، حيث وشى به إلى الخليفة أحدُ الحساد، أصحاب النوم والوساد، أن الإمام ابن تيمية يطمع في الملك، وأنه عنده رغبة في السلطة، فقال قولته المشهورة أمام السلطان، بقلب شجاع، ونفس أبيَّة، ولسان صادق: والله إن ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فلسين، فتبسَّم السلطان لذلك، وأجابه في مقابلته بما أوقع الله له في قلبه من الهيبة العظيمة: إنك والله لصادق، وإن الذي وشى بك إليَّ كاذب.


واستقر له في قلبه من المحبة الدينية، ما لولاه لكان قد فتك به منذ دهر طويل؛ من كثرة ما يلقى إليه في حقه من الأقاويل الزور والبهتان[7]، فزاد حظوته لدى السلطان، وقربه من الملك الديان، فسبحان مقلب القلوب والأحوال، ومصرف الدهور والأيام!


الناس على مفترق طرق:

عصرنا الذي نعيش فيه هو عصر التناقضات، وعصر الازدواجية في المعايير، عصر تغيَّرتْ فيه كثير من المفاهيم الواضحات، والثوابت المبينات، في أذهان الكثير من أصحاب العقول، فضلاً عن غيرهم من أصحاب الترف والفضول، فالصادق يُهان ويُطْرد ويُحرَم، والكذاب يُكرَّم ويقرَّب، سواء كان ذلك على مستوى الأفراد والجماعات، وهذا يترتب عليه آثارٌ في الأنفس، وآثارٌ في الواقع، فالبعض يحمله معاملةُ الناس له على عكس ما يتوقعه، إلى سلوك طرق تخالف الشرع في التعامل؛ بما يجده من كبت، وألم نفسي، فيدْعوه إلى التنازل عن كثير مما تربَّى عليه من الأخلاق الحميدة، والصفات الحسنة، من قول الصدْق، وسلوك طريق الجادة، والأمانة والوفاء، والعفة والشجاعة؛ لأنه يجد مِن حوله من لا يستوعبه ولا يتقبله؛ بل يرفضه ويطرده، فيغير ما في نفسه من طبائعَ وأخلاقٍ، وصفات وأحوال، إلى ما لم يكن تعوده وتربى عليه، ويردد المقولة التي تقول: (حشر مع الناس عيد).


وعلى مستوى الجماعات، فبعد أن أصبحتْ سياسة الكذب المقرونة بالظلم هي المعتمدةَ في سياسات دول العالم، وخاصة الغربية؛ بل أصبح الشعار: أنْ لا علاقة للأخلاق في العلاقات بين الدول، وأن الخداع والتضليل، والغدر والكذب من البراعة في السياسة[8]، يجد الكثير من المتمسكين من بعض الجماعات الإسلامية من الضيق والتضييق، والكبت والحرمان، على بعض ما يمارسونه من شعائرَ وعباداتٍ، ودعوة وإرشادات، من قبل الدول والمجتمعات التي يعيشون فيها، وخاصة المجتمعات الغربية التي لا تدين بالإسلام، تحت مظلة ما يسمَّى محاربة الإرهاب والمتطرفين، ويسمع منهم الكذب والخيانة، والدجل والحماقة، بشكل يثير الاستغراب، ويبعث على القلق والارتياب، مما لا يجد له أي سبب من الأسباب؛ بل يجد القتل والتخريب في الممتلكات، والتعذيب في السجون والمعتقلات، فيحمله ذلك - بسبب الفراغ الديني والروحي ربما، ولعدم الرصيد الإيماني القوي، أو لعدم الفهم الصحيح لمعاني الإسلام - على التشدُّد والغلو، وسلوك طرق في التغيير تنتهي به إلى ما لا يحمد عقباه، مما نسمع ونرى، والكثير منه يحمل ما لم يحتمله، ويبالغ فيه أكثر مما يستحقه، مِن قتْل مَن لم يستحقَّ القتل، من كبار السنِّ، والنساء، وفلذات الأكباد، وفي بلاد الإسلام[9]، التي هي تحت أوامر أولي الأمر، مما له أبلغ الأثر في تشويه صورة الدين الإسلامي الناصعة الواضحة، والتي تنهَى حتى عن قتل النساء في الحروب، فضلاً عن غيرهن.


إن الإسلام يرفض مثل هذا النظر السقيم؛ بل يوجه أنظار الجميع إلى الالتزام بمعاني الأخلاق مع الفرد والجماعة والدول، حتى مع الأعداء، وأن دائرة الأخلاق في الإسلام تشمل ما ذكرناه، وهو مما لا نجد له نظيرًا في الشرائع السابقة، ولا في النظم الوضعية الحاضرة، والبعض علم أن ذلك هو طريق الأنبياء والعلماء والصالحين، وأنهم أصيبوا أشد مما أصيب به هو في دِينه وعِرضه، وعقيدته وإيمانه، فزادهم ذلك تمسكًا واعتصامًا بالله، وأنه يرغب في حصول الأجر والثواب، وإن اعتزل عن الدعوة لم يمنعه ذلك من ممارستها في حدود ما يقدر ويتمكن منه، من الكلمة الطيبة الصادقة، ولو بين أهله وأحبائه، وأصدقائه وأقربائه، وهو المطلوب المرغوب فيه؛ بل هو ما دعا إليه القرآن، وحض عليه أهل الإيمان، فهؤلاء في وادٍ، والناس في وادٍ آخر، لا تسأل عن عيشهم الرغيد، وما يتمتعون به من الانشراح والسرور، والبهجة والحبور، برغم ما يعانونه من التضييق والتشريد، أحدهم إن عاش عاش حميدًا، وإن مات مات مكرمًا، له العاقبة الحسنة الحميدة، حتى قال قائلهم: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتْلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة[10]، وإن مما يعين على ضبط انفعالات النفس في تلك المواطن الصعبة الحرجة، وتوجيهها التوجيه النافع، ما يلي:

أولاً: أن يعلم أن سنة الله في الحياة هي الابتلاء والامتحان، وأنه لو شاء الله لجعل دار الدنيا ليس فيها من تلك المنغصات والمزعجات؛ بل مزج بين هذا وذاك؛ ليبتلي عبادَه، ويختبر أصفياءه.


ثانيًا: أن يعلم أن الابتلاء أصاب أحبَّ العبادِ إلى الله، وأكْرمَهم عنده، وهم الأنبياء، وهم صادقون؛ قال - تعالى -: ? حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ? [يوسف: 110]، ولم يحملهم ذلك على التهور أو الاستعجال، أو الطيش والعجلة، ومقابلة الإساءة بإساءة أو أشد منها؛ بل قابلوها بالإحسان والصبر تارة، وبدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، وتحصيل أعظم الخيرين بتفويت أدناهما، كما هو مقرر عند أهل العلم والبصيرة.


ثالثًا: أن يديم النظر في تلاوة كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار؛ فهو خير رصيد، وهو البلسم الشافي لأهل البلاء، وخاصة سورة يوسف - عليه السلام - ففيها من العبر والعظات، والمواعظ والإرشادات، ما يزيد على ألف عظة وموعظة[11]، وعلم وتذكرة، حيث ابتلي في العشق وهو بريء، واتُّهم بالفاحشة وهو من أنقى خلْق الله، وهو بريء مما رمي به، حتى جعل الله له مخرجًا؛ بل مكَّنه الله في الأرض يتبوَّأ منها حيث يشاء، وهذا يفند قول من يقول: إن الصادق لا يمكنه أن يعيش بين أهل الباطل.


رابعًا: أن يعلم المسلم أن الخلْق لا ينفعونه ولا يضرونه، ولا يملكون له من الأمر شيئًا، ولا يحمله ذلك على مجافاتهم؛ بل عليه التعامل بالحكمة والموعظة الحسنة.


خامسًا: أن يعلم أن ملازمته للصدق دليلٌ على الفلاح والنجاح، وأن العاقبة لا بد أن تكون له ولو بعد حين، قال الرسول الأكرم: ((إن الصدق يهدي إلى البِر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل لَيصدقُ حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل لَيكذبُ، حتى يكتب عند الله كذابًا))[12].


سادسًا: ألاَّ يكون إمَّعة؛ إن أحسن الناسُ أحسن، وإن أساؤوا أساء، وألاَّ يغتر بمن حوله مِن الهالكين، ولْيعلم أن انفراده في سلوك طريق الحق دليلٌ على الفلاح والنجاح، قال أحد الصالحين: عليك بلزوم طريق أهل الحق، ولا تستوحش من قلة السالكين[13].


سابعًا: أن يتأمل سرعة زوال الدنيا، وأنها دار فناء وزوال، لا دار بقاء، وأنه على قدر تعظيمك لها في قلبك، يعظم عليك فواتُ شيء منها، وتتحسر وتتألم من فوات شيء من متاعها، وأنت ترى أهل الكذب والباطل يتمتَّعون وينعمون بها، بينما أنت محروم بسبب صدْقك، وتأمَّل جواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قال له الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقد رأى الرسولَ يجلس على حصير وقد أثَّر فيه، فبكى، فقال له الرسول الأعظم: ((ما يبكيك يا ابن الخطاب؟))، فقال: يا رسول الله، ألا أبكي وهذا الحصير قد أثَّر في جسدك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وقيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله وصفوته، وهذه خزانتك؟! قال: ((ألا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟!))[14].


والبحث يحتاج إلى مزيد إضافة وتفصيل؛ لأهميته وصلته بواقع اليوم، ومن الله التوفيق والسداد والعون، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

[1] رياض الصالحين، باب ما يجوز من الكذب، ص377، وأورد حديث أم كلثوم، والذي فيه: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس، إلا في ثلاث؛ تعني: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها؛ متفق عليه، رواه البخاري 5 - 220، ومسلم 2605، وغيرهما.
[2] المصدر: صحيح ابن ماجه، الصفحة أو الرقم: 3277، صحيح.
[3] إذا كان للداعي المسلم مندوحةٌ من الأذى - أي: يستطيع أن يتوقاه ولا يجب عليه مواجهته - فله أو عليه أن يتوقاه حسب الظروف والأحوال، فقد يباح له الابتعاد عنه وعدم مباشرة ما يستدعيه، وقد يجب عليه الابتعاد وعدم مباشرة ما يستدعيه؛ لأن الابتلاء صعب على النفس؛ أصول الدعوة، للدكتور عبدالكريم زيدان، ص352.
[4] بعض ما تعرض له رسولنا الحبيب في الرحيق المختوم، للشيخ المباركفوري، ص76، مكتبة قرطبة، سنة 1998، وما بعدها من الصفحات، والسيرة النبوية عرض وقائع، ج1، للأستاذ علي الصلابي.
[5] تفسير ابن كثير، ج2، ص124.
[6] من أفضل مَن كتب عن سيرة الإمام أحمدَ العلامةُ ابن الجوزي في كتابه القيم مناقب الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه.
[7] الأعلام العلية، ج1، ص67.
[8] أصول الدعوة، للدكتور عبدالكريم زيدان، ص90، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1987.
[9] من أفضل ما قرأت في هذا المعنى كتاب نازلة العراق، لشيخنا الفاضل فتحي سلطان؛ فقد أوضح كل ما من شأنه أن يزيل الإشكال، ويوضح المبهم، وخاصة في مثل ذلك الموضوع الحساس الخطير.
[10] راجع في مناقب الإمام ابن تيمية كتاب العقود الدرية، ص377، وما بعدها.
[11] لفضيلة الشيخ محمد صالح المنجد كتاب سرد ما بهذه السورة من فوائد   وعبر، ما بين فوائد تربوية، وأخرى تتعلق بالأحكام، وقد عدها مائة فائدة، جمع أحاديثها وخرجها هاني فاروق، وفي الموضع نشر كتاب للشيخ سليم الهلالي بعنوان إتحاف الألف في فوائد سورة يوسف.
[12] المصدر: الجامع الصحيح، الصفحة أو الرقم: 6094، خلاصة الدرجة: صحيح.
[13] قال ابن القيم - رحمه الله -: وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم، فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق، ولا من فقْدِه، إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول، الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا؛ إغاثة اللهفان، ج1، ص12، تحقيق حامد الفقي، دار الكتب العلمية، سنة 1966م.
[14] المصدر: البحر الزخار، الصفحة أو الرقم: 1/303، روي بإسناد آخر، وهذا الإسناد أحسن منه، وأتم كلامًا.

 


"
شارك المقالة:
159 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook