"{بوادٍ غير ذي زرع} قلبٌ يضيءُ العَتمات سَـلامٌ على هاجر وهي تلتحفُ بِالثقة، وتتدرَّع بالسَّكينة، وتتقوَّى بزاد الصبر في ذلك الوادي المُقْفِر مع رضيعِها إسماعيل. سَـلامٌ على روحِها المُضيئةِ على ضفةِ ذلك الوادي النائي البعيدِ الذي ليس به أنيسٌ ولا جليسٌ، ولا بَشَرٌ ولا حركةٌ. سلامٌ عليها وقد ارتوتْ أغصانُ رُوحِها بِسلسبيلِ الأُنْسِ بربِّها، وامتلأَ قلبُها بالتَّسليمِ والتَّوكُّل والاحتسابِ والإيمان. لقد كانت بين يدي حاكمِ مِصْر تَرْتَعُ في الزِّينة والبُهرج، وتتقلَّب في النعيم، وتتذوَّق رَغَدَ العيش، وبين يديها ما تشاء من ألوان الطعام والشراب، ثم فجأة هي الآن في وادٍ نَأَتْ عنه الحَضارة، وابتعد عن العُمْران. لا بأس يا هاجر، سيدورُ الزمان دورته، وسيكون مَجلِسُك هذا دُرَّة الأرض، ومنبع الحياة، وتاج البقاع، وعروس الرمال، ومركز الكون. كان قلبُ هاجر يُضيء العَتَمات، وينتظرُ الفتوحات، وفي كل لحظة كان يعبر إلى الله! كانت تخطو على أثر الرجاء، وتنثر لولِيدها الحُبَّ والآمال. إن كنت مع الله حتى وإن هبط بك الموج لن تغـرق، وما كان بعيدًا سيقرُب، وما كان عسيرًا سيسهُل، وما لا يُدرَك اليوم سيدنو غدًا، فقط عليك أن تتلو: ? وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ? [الكهف: 45]. كان يفيضُ لديها اليقينُ فيضًا، والدعاءُ مع اليقين مَظِنَّةُ الإجابة، والأكُفُّ المرفوعةُ لا تَخيبُ أبَدًا. لن يُضيِّعنا: اسمع إلى هاجر وتأمَّل ماذا تقول: يَا إِبرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيء، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِى أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: إِذًا لا يُضَيِّعُنَا... انتَبَذ إبراهيمُ مكانًا دانيًا منها حيثُ لا تراهُ، ورفعَ يديهِ إلى السماء يدعو: ? رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ? [إبراهيم: 37]. حَدَّثَ اللهَ طويلًا بلسانِ الذُّلِّ والانكسارِ والرغبةِ والخوفِ، ثُمَّ استودَعَ اللهَ زوجتَه وولدَه، ومضى لا يلتفِتُ، لا رواحلَ تحملهُ إلا كلماتُ دُعائِه، كأني به يمضي راحلًا مُهاجرًا يشقُّ الصحاري والقفار، والله يقول له: قَـد أوتيتَ سُؤلَـك يَـا إبراهيم. كانت هاجرُ تمشي بقلبِها إليه، وفي كلِّ ثانية كانت تترقَّب نيلَ المنى، وكلمتها لن يُضيِّعنا.. تُردِّد صداها جبالُ مكة، بل ما بين الخافِقَين، بل تحومُ حولَ العَرش. أول ما غادرها إبراهيمُ وولَّى من عندها نصبَت خَيمةَ الدعاء، فهَطل عليها غَيمُ الغنائم. بكاءُ الوليد ولهفةُ الأُمِّ: نَسَجَت هاجرُ من خيوطِ الوحدة أنسًا بربِّها، وكان في فؤادها ضجيجٌ ليسَ يَسمعه إلا الله، ومن وجَد الله وجد كل شيء، مدَّت شراع قلبها نحو الغيبِ، وخَلَعت نَعلي القُنوط، فجاءها كل ما ترجو. يا رب، ما كان بعيدًا بالاقتراب منك يصل، سُبْحَانَك أقْرَبُ إلَيْنا مِنا، تقولُ للشيءِ: ? كُنْ فَيَكُونُ ? [النحل: 40]. لقد آنسَ نورُ الإيمان شَغافَ قلبِها فسكَنتْ واستراحَتْ واستقرَّتْ، كانت هاجرُ تحمل اليقيـنَ فـي سيرها، وكان سعيها الحثيث بين الصفا والمروة مُخبرًا عن العمل بالأسباب، وكان الرجاءُ يمضي بها في معراج الزُّلفى، فقَدَت كل شيء إلا ثقتها بربِّها، ومَن عوَّضَه الله بالثقة فقد أغناه عن كل أحد، عبَرت من بحر الوحشة على سفينة الثِّقة إلى ضفة العطاء، لم يتوقف نبضُها، ولم تتعثر في مشيها، ولم تنبُسْ ببِنْتِ شَفَةٍ من التسخُّط؛ إن قلبها مع الله، ومَن علق قلبُه بالله رضي بكل ما يجري. كانت تبثُّ مناجاتها على ذبذبةٍ طولها اليقين، وفي كل مرة كانت تنهضُ من وَهْدَتِها ترى الإجابةَ على مرمى حَجرٍ. الوليدُ يَشق صراخُه ضفتي الوادي، الجوعُ يُلهب أمعاءَه، ولا ماءَ في القِرْبةِ، ولا تَمْر في الجِرابِ، ولا لبَنَ في الضَّرْعِ. كان وجهُ هاجَر يتقلب يمينًا وشمالًا، ونحو السماء، والله يَعلم ما يعتصرُ في فؤادها، ويُخفيهِ قلبُها، وهو وحده مُطَّلِع على ما تُريده، ويُشغِل فِكْرها. لحظةُ فورانِ زمزم: لقد كانت هاجر تَجري تلتمسُ غَوْثًا، أو لعلها تَرى أحدًا، تصعَد وتهبِط وتلاحقُ أنفاسَها، ويرتفعُ وجِيبُ نبضِها، وفي لحظةٍ فارقةٍ سَمِعَتْ حِسًّا، فجَعَلت تُسكِّت نفسَها، ثم قالت: لقد أسْمَعتَ، فَأغِثْ إن كانَ عِندكَ غواثٌ، هاتِ الفَـرحَ يا جبريل، وصُبَّ غَيْثَ البُشْرى، وانثُر بَسَمات السَّعْد. هذهِ لحظةٌ سيُخلِّدها التاريخ، ويرويها الأجيال، وتُحفَظ في ذاكرة الدهر، وعبيرُها سينفح على مدى الزمان. التفَتَتْ فجأةً وإذا بالمَلكِ قد بحثَ بعقبهِ والماء يفورُ بِجانبِ الرضيعِ، فجاءت تزمُّ الماء وتجمَعهُ، وتَقولُ: زُم زُم؛ أي: اجتَمِع اجتَمِع. يا لله كيف كان شعورها وهي ترى الماء ينبُع، يا دَهشة القلـب من ذلك النَّبْع الدَّفَّاق! ويا روعة ذلك العطاء الذي غَمَر تلك الساعية في بطن ذلك الوادي المُقْفِر! أدركَت أنَّه لا بدَّ أن تَخلعَ نعلَيها، فأُمطِرَت أمْنًا وأمانًا، ورزقًا وهناءً، فجرَى واديها، وسيظل جاريًا هانئًا إلى قيامِ الساعة، فيا لجمالِ مرعاها! وقد أخصبَ بعد أن ضربَه اليَبَاس، وأجدَبَت ضِفافه. كانَ ذلك الدرب موحشًا؛ لكِن من كان معَ اللهِ صارت دروبُه كلُّها أُنْسًا، وما أصدق ما قال الشاعر: كُلُّ الدُّروبِ بغيرِ الله موحِشَةٌ وليس مُنقَطِعًا بالله موصولُ بل كلُّ مُنصرِفٍ عن رَبِّهِ قَلِقٌ وكُلُّ مُعتَصِمٍ بالنَّاسِ مَخْذُولُ اسمع آخر الحديث ترى عجبًا: قَالَ فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْت اللَّهِ، يَبْنِي هَذَا الْغُلامُ، وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ. إنَّ اللهَ لا يضيعُ أهلَه، ألم تقل هي من قبل: إذًا لا يُضيِّعنا؟ إن من يثق في موعود الله لا يضيع، اللهُ إذا وعد أوفـى، ومَن سأله اكتفَـى، ومَن اتَّكأ على جدار الثقة به نجا، يَسوقُ الْمُراد وَهُوَ بَعِيد، وإن شاءَ فلا تَصلُ إلى ما بينَ يديكَ وَهُوَ قَرِيبٌ، وإن قلبًا اعتمَد على اللهِ لا يَشقَـى في دُنْياه، ولا يَضلُّ في أُخْراه، كيف تقنط من رحمته، وهو الذي سخَّر لك الرزق وأنت في ظُلمات الأحشاء؟ لقد كانَ أقصى مراد هاجر قِرْبة ماء، فأعطاها الله معينًا صافيًا مباركًا ثَجَّاجًا، لا ينضُب إلى يوم القيامة، هو خيرُ ماءٍ على وجهِ الأرض، فكيف تيأس؟! لقد كانَ مُرادُها شربةَ ماءٍ لها ولرضِيعها، فأعطاها اللهُ من الماء ما يَكفيها ويكفي ولدها وقبيلة بأكملها وأهلَ الأرض جميعًا، فكيف تقنط من بركةِ فضلهِ؟ لقد كانَ غايةُ أمَلِها ماءً في قِربة يكفيها وولدها مدةً قصيرةً من الزمن، ريثما يعودُ إبراهيم إليها، فأنبعَ اللهُ لها مَعينًا لا ينضُب إلى يوم القيامة، فكيف تَستبعِدُ فَضله، وسَعة عطائه؟ كانت تبغي قِربةً فأعطاها مَعينًا، وكانت تريد سقيًا لها ولولدها فأسقاها وأسقى أهل الأرض، وكانت تبغي ما يكفيها وولدها من الماء ذاك الوقت فأنبعهُ إلى نهايةِ الدنيا، فتأمَّل هذا الجود الذي ليس له حدود، كرمه واسعٌ، وعنده خزائن السماوات والأرضِ، فقِف على بابهِ ساعةً، وسيَغمركَ بما يُدهِش. لقد بقيَت زمزمُ على ما هي عليهِ رَدَحًا من الزمن حتى دَفنتها قبيلةُ جُرْهُم، قبلَ أن يَخرجوا من مكة. وعادَتْ زَمزم: تجدد نبع زمزم وفورانها، وعادت هذه البركةُ، وظهرَ هذا العطاءُ المنهمر مرةً أخرى؛ لأن بذرة الخيرِ تَظهر وإن طَمَرَها التراب، فتعالوا حتى نَقِف على هذا البركة المتجدِّدة التي حكاها لنا رواة التاريخ: بينما كانَ عبدُ المطلب جَدُّ رسولِ الله نائمًا ذاتَ ليلة، إذ رأى مَن يقول له: احفِرْ زمزمْ؛ إنك إن حَفَرْتَها لن تندمْ، وهي تراثٌ من أبيك الأعظَمْ، لا تَنْزِف أبدًا ولا تُذِمْ، تَسقِي الحجيجَ الأعظَمْ، مثلَ نَعامٍ حافلٍ لم يُقْسَمْ، ويَنْذِرُ فيها ناذِرٌ لمُنْعِمْ، تكون ميراثًا وعَقْدًا مُحْكَمْ، ليسَتْ كبعضِ ما قد تَعْلَمْ، وهي بين الفَرْثِ والدَّمْ. فسأله عبد المطلب: أين هي؟ فقال له: عند قرية النمل عند نقرةِ الغُراب الأعصم، فلمَّا أصبح عبد المطلب أخذ ابنه الوحيد الحارث ومِعْوله، وذهب ليبحث عن الأوصاف، فوجد قرية النمل بين وثنَيْنِ من أوثان قريش، وهما: إسافٍ، ونائلةَ، وكان ذلك الموقع الذي تنحَر فيه قريش القرابين، وبينما هو واقفٌ هناك، إذ بغرابٍ ينقُر عند المكان، فتأكَّد عبد المطلب من صحة الوصف، وعلم أنَّه أمْرٌ من الله تعالى بحفر زمزم، فلمَّا هَمَّ بالحفر، اجتمعت عليه قريش ومنعوه؛ ولكن عبد المطلب كان عازمًا على حفرها فحفر، فقاموا إليه، فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر إسماعيل، إنَّ لنا فيها حقًّا، فأشركنا معك فيها، فقال عبد المطلب: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر خُصِصْتُ به دونكم، وأُعطِيتُه من بينكم، قالوا: فأنصِفنا، فإنَّا غير تاركيكَ حتى نُحاكمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد، قال: نعم، وكانت بالشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب مِن كل قبيلة من قريش نَفَرٌ، قال: والأرض إذ ذاك مفاوز، لا ماء فيها، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض المفاوِز بين الحجاز والشَّام، فَنِي ماءُ عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا، وأيقنوا الهلكة، واستسقوا ممن معهم من قبائل قريش، فأبَوا عليهم، وقالوا: إنَّا في المَفازة، ونَخْشَى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى عبدُ المطلب ما صنعَ القوم، وما يتخوَّف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأيُنا إلا تبعٌ لرأيك، فأمُرْنا بما شئت، قال: فإنِّي أرى أن يحفِر كلُّ رجلٍ منكم لنفسه بما بكم الآن من القوَّة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلًا واحدًا، فضيعَةُ رجلٍ أيسر من ضيعةِ ركبٍ جميعًا- أي: ضياع رجل واحد أيسر وأحسن من ضياع جماعةٍ بأسرها- قالوا: سمعنا ما أردت، فقام كل رجل منهم بحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشًا. ثم إن عبد المطلب، قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا عَجْز، ألا نبتغي لأنفسنا حيلة؟ فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد، ارتحلوا، فارتحلوا، حتى إذا فرغوا- ومن معهم من قريش ينظرون إليهم، ما هم فاعلون- تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به، انفجرت من تحت خُفِّها عينُ ماء عذب، فكبَّر عبد المطلب، وكبَّر أصحابه، ثم نزل فشرب وشربوا، وملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل التي معه من قريش، فشربوا، فقالت القبائل التي نازعته: قد والله قضى الله لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدًا، الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا، فرجع ورجعوا معه، ولم يمضوا إلى الكاهِنة، وخَلَّوا بينه وبين زمزم. إنَّها قِصةٌ أخرى تَحكي لنا بَركةَ زمزم، وفضلَ تلكَ الخطواتِ التي كانت تَخطوها تلك الأُمُّ، وشِدَّة بكاء ذلك الطفلِ الذي ملأَ الوَادي بِصُراخِه. لو صدَقْتَ لآتاكَ أضعافُ ما فاتك، إذا اتَّقدَت دموعُ المناجاة شُموعًا مضيئةً حلَّ الوهْب مكانَ السَّلْب. واللهِ لو صدقتَ معه، وقَبِلك في لحظة؛ لآتاك من الهبات أضعاف ما فاتَك من الأمنيات، وإذا منَّ عليكَ بِنعمة الوصلِ محا الشقاء من حياتك. يرسل الشَّدائد، وفي طيَّاتها فوائِـد، ومن أتاه مَشيًا؛ أتاه سَعيًا، والمصائبُ مواهبُ لمنِ احتسب، والمحنُ منحٌ لمن ارتقب، أليس هو القائل: ? وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ? [المجادلة: 22]. هو اللطيفُ يريدُ بك اليُسْر، ولا يُـريـد بِـك العُسْـر، وإذا صَدَقَتْ سريرتُك، صَفتْ بصيرتُك. إن الأزمات للمؤمن كالعُود تسحَقُه فيعبق، وكالذهب تُحرقه فيُشرِق. إذا عَلتِ الآه، وبلغَ العُسر مَـداه، وطحنكَ الضر في رحاه؛ أتى الفرج كالنهار وضحاه، فاقـرأ على وَجعِ قلبِك: ? وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ? [الضحى: 5]. الدِّلاءُ سَتمتلئ، والسنابل ستدنو، والغَيثُ سيهطلُ، ما عليكَ إلا أن تزرع الثقة في قلبكَ، ولو صليت على الرَّمْضاء، لا يَهزك المُرجفون، ولا يُزعزع إيمانك المتساقطون، ولا يُرهبك الجبَّارون، ليكن الدعاء مَجراك ومرساك. واديكَ الذي ليسَ به زرع: تَمرُّ على الإنسانِ في بعضِ الأحيان من الهموم والغموم والأوجاع ما تجعله يتلفَّت يمينًا وشمالًا فلا يجدُ سندًا، وينظر هنا وهناك فلا يرى أحدًا. يَفتَقر إلى يدٍ تُربِّتُ على كتفهِ، يلتمس مُنقِذًا في مُشكلته فلا يجد، ويتساءل: أين الأحبَّة الذين تمتلئ بهم ذاكرتي؛ لكن لا يجيبه إلا صدى: لكنَّهم في النائباتِ قليلُ. إنَّ ألم الوحدةِ هو الذي جعل من ابن زُريق يُسجِّل أروع اغترابية قالها إنسان، وكان قد ارتحلَ من بغداد إلى الأندلس لعل أميرها يجُودُ عليه، وقد كانت بينهما قرابة، فلمَّا لم يجد من صديقه الأمير ما جاء من أجله، وعجب من ردِّه الباهِت؛ نام ليلته وحيدًا في غرفةٍ اكتراها، ولما شَعَرَ بأنه بوادٍ غير ذي زرع نَظَمَ قصيدته يخاطب فيها زوجته يقول في مطلعها: لا تَعذُليهِ فإنَّ العَذْلَ يولِعهُ قد قلتِ حقًّا ولكن لَيسَ يَسمَعُهُ ثمَّ وضع القصيدة تحتَ رأسه ومات. هذهِ الحياةُ جُبِلت على الكدرِ، وطُبِعت على عدمِ الصفوِ لأحد، فتسلَّح بسلاحِ الإيمان لِتَحتمي، وتزوَّد بزاد التقوى لتكتفي، ثمَّ إنْ نمت بين أهلكَ معافًى آمنًا، عندك قوتُ ليلتك فكفى بها من نعمة، وعلى الدنيا السلام. إلى ميناء بَربَرة: حدَّثني عالمٌ يمني في الستين من عمره- ولا أظن أنَّ عالمًا في اليمن مثله في علم الأصول، وهو خطيب لا يَخشى في الله لومة لائم، أحسبه كذلك والله حسيبه- أزمع على السفر ذات يومٍ إلى مدينة نظام الدين في الهند ليكمل حياته داعيًا إلى اللهِ هناكَ بَعد أن ضاق ذَرْعًا بالأحداث والنكبات، فركب البحر متَّجها إلى بربرة، وحينها اجتمعت عليه أمراضه، وضاعت عقاقيره، فَفَقد الوعي، وأُغمي عليهِ من شدة المرضِ، وفقدَ اتصالاته، فأضحى بوادٍ غير ذي زرْعٍ، ولم يكن معه أحد من صَحْبٍ وأهلٍ ووَلَد، وانتفخَتْ رِجْلاه حتى لم يستطيعوا إخراجَ حذاءيه إلا بتقطيعهما، وتورَّم جسدُه، وساءتْ حالتُه، وعندما رَسَتِ السَّفينة على شاطئ إحدى المدن الإفريقية صعَد إليه خمسة وعشرون جنرالًا، فأنزلوه، وصنعوا له مَوكِبًا فخمًا بسياراتهم، وأشرفوا على علاجه، ولا يعرف أحدًا منهم، ولا كيف تم التَّواصل والإتيان بهم، ثم استقر في تلك المدينة مُدرِّسًا في جامعاتها، خَطيبًا في أكبرِ مَساجِدها، ونسيَ الهند، ومدينة نظام الدين. عندما سألتُه ما تفسيرُ استقبالِهم لك وحفاوتهم؟ قال كنت أقرأ: ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ? [مريم: 96]. لقد كانَ مَقطوعًا عن الأحبابِ والإخوانِ والأهلِ، فقيَّض الله له أهلًا وإخوانًا وأحبابًا لا يَعرفُهم، وكانَ مَريضًا فَسخَّر الله لهُ من يقومُ على عِلاجِه وخِدمتهِ، وكانَ غريبًا وحِيدًا فريدًا فهيَّأ الله له مَقامًا ومأوى وأُنْسًا، مَـن وثق بالله أعطاه الله على قدر ثقته به. ما بين حروفِ النفي وأمر كن: أتقنعُ بمُذقة غبوقٍ، وقد كانت عزيمتكَ أن تتضلع؟ كن واثقًا بموعوده، ولا تَبْتَئِسْ، فالبائس يرجع صفر اليدين. مهما ابتعد عنك الصَّاحبُ، وفارقك الجليسُ، وفقدتَ الأنيسَ، واحتَوَشَك الظَّلامُ، وازدادت عليك الآلام، ورأيتَ نفسكَ فجأة في سرداب الهمِّ، وكهف الغمِّ، ولم تجِد يَدًا حانية تمتد إليك، أو قَلبًا يسألُ: ما بكَ، ويُفتِّش عن مُصابِكَ، فوجِّه قلبكَ حينها إليه، فهو المتكفِّل بأمرك أليس هو من ? يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ? [الرعد: 2]. مَهما أجدبَت الأرضُ، وتصحَّرت الضفاف، وقحط المرعى، ونضب البئر، وجفَّ الوادي، وتأخَّر الغيث ثِقْ أن السحاب الماطر في طريقه إليك تحمله الرياح المبشِّرات، وسيجعلُ من أرضكَ اليَباب جناتٍ فَسيحةً، وحقولك الذاويةِ حدائقَ ذاتَ بهجةٍ تسُرُّ الناظرين. مَهما داهمَك الفقرُ، وكوَاك الجوع، وأمَضَّتْكَ الحَاجة، وألهَبتك المَسغبة، فانظر وراء حُجُب الغيبِ ترى كرمه وغَوثه، فقط اسعَ كهاجر، واجعل قُوتك اليقين، وهِجِّيراك المناجاة، وانتظر كَرمًا ليس له حد. فيا عجبًا للمرءِ سِيقت صُروفُهُ إلى غير ذي زرعٍ وسِيقتْ قوافلُهْ إلى مَنْ يحوم الطَّرفُ يَمْنَى ويَسْرةً؟! وربُّكَ فوق الكُلِّ ما خابَ سائلُهْ حتى وإن كان الوادي مُقفرًا لا توجد به قطرة ماء أو سنبلة زرع سَتَثور البِحار، ويتشكلُ السحاب، وتجري الرياحُ، ويهطلُ المطر، وتنبتُ الأرض. لو قالت لك الظروف: لا ولـن، وأسمعتك كل حروف النفي، فقُـل: هو ربي وأمره بين الكاف والنون. إن مَن يثق بوعود الغَيب لا تنبُت في قلبه مثقال ذرة من يَأس، ولا يجد اليأس إلى قلبه سبيلًا، فهو قد علق قلبه بالله منتظرًا الوعد بالحُسْنى، وخير العبادة انتظار الفرج، وعلى قدر ثقتك بعطاء الله يكون ذلك العطاء، الواثق بعطاء الله يشتَـدُّ، واللاهث بعد سراب الهوى ينهَـد. من صبر على التَّمحيص أكرمه مولاه بالتَّخصيص، ستتعب لكن ثق أن هناكَ بهجةً عند الوصولِ تُنسيك كل ألمٍ، وبلسمًا يزِيحُ عنك كل سقَم. يا أيها الإنسانُ ما هذا القَلق أو ليسَ ربُّكَ قد تَكفَّلَ ما خَلق؟ أو ليسَ بَعْدَ العُسْرِ يُسْرٌ مِثلما بعدَ اللَّيالي دائمًا يأْتي الفَلَق؟ "
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.