الهجرة دروس وعبر (خطبة)

الكاتب: المدير -
الهجرة دروس وعبر (خطبة)
"الهجرة دروس وعبر أما بعد: أحبتي الكــرام: تعيش الأمَّة الإسلاميَّة هذه الأيام بداية سنةٍ هجريَّة جديدة، وإقبال عامٍ مباركٍ بإذن الله، بعد أن مضى عام كامل بأفراحه وأتراحه.   عباد الله: حديث المناسبة في مطلع كلِّ عامٍ هجريٍّ ما سطَّره تاريخنا الإسلاميُّ المجيد من أحداثٍ ووقائعَ، لها مكانتها وآثارها في عزِّ هذه الأمَّة وقوَّتها وصلاح شريعتها لكلِّ زمانٍ ومكان، وسعيها في تحقيق مصالح العباد في أمور المعاش والمعاد.   إنَّ في هذا الحدث العظيم من الآيات والآثار والدروس والعِبَر ما لو استلهمته أمَّة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه، لتحقَّق لها عزُّها وقوَّتها ومكانتها وهيبتها، ولعلِمت علم اليقين أنَّه لا حلَّ لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها إلا بالتمسُّك بإسلامها والتزامها بعقيدتها وإيمانها، فما قامت الدُّنيا إلا بقيام الدِّين، ولا نال المسلمون العزَّة والكرامة والنَّصر والتَّمكين إلا لما خضعوا لربِّ العالمين، ولا يمكن أن يحلَّ أمنٌ ورخاءٌ وسلامٌ إلا باتِّباع نهج الأنبياء والمرسلين.   عباد الله: وقد تُثار في النفس تساؤلات واندهاشات عدة عن أحداث السيرة، فما المعنى في أن يترك العبد دياره وأرضه التي نشأ فيها وفيها ذكرياته؟ وما المعنى في أن يهجر الإنسان أهله وماله وعشيرته لينزل أرضًا جديدة لا يعرفها بلا مال ولا مأوى ولا عشيرة؟ بل وما المعنى في أن يَدَعَ أبناءه وزوجته ووالديه وأهله بين ظهراني أعدائه ليفر بنفسه إلى أرض قد لا يلقى فيها قبولًا ولا ترحيبًا؟!   إنه لا معنى لكل ذلك سوى الإسلام. دين الله تعالى الذي يهون بجانبه كل غالٍ وعزيز؛ فمهما عزَّت الأوطان والديار، فالإسلام أعزُّ، ومهما تعلقت القلوب بالأبناء والزوجات، فإن تعلقها بالإسلام أشد، ومهما قويت الأموال والعشيرة، فالإسلام أقوى وأمنع.   لقد أدرك مسلمو الجيل الفريد أن حياتهم في الإسلام هي الحياة الحقيقية، وأن قوتهم في الإسلام لا فيما سواه، وأن اطمئنان قلوبهم وراحة أفئدتهم في الإسلام لا فيما سواه، وأن عزهم وشرفهم في الإسلام لا فيما سواه، وأن وجودهم مرهون بوجود الإسلام، وأنه لا الأولاد ولا الأموال ولا الأوطان ولا التراب أولى بتضحية الإنسان بنفسه من الإسلام.   لذا كان غاية ما يتمنون أن تُجدع أنوفهم، وتُبقر بطونهم، وتتخطفهم الطير، أو تهوي بهم الريح في مكان سحيق، وتأكل أشلاءهم السباع في سبيل الإسلام، كانت غاية آمالهم أن يكونوا جسرًا يعبر عليه الناس إلى دين الله أفواجًا؛ لذا لم يتمكن منهم عدوهم في تاريخِهم كله، بل كان أعداؤهم أشد خوفًا منهم على ضعف أجسامهم وقوتهم، وقلة حيلتهم ونقص عتادهم، فكانوا يواجهون الموت بقلوب قوية، يواجهونه ولا يخشونه، بل كان أحدهم يسعى إليه سعيًا.   أيها الإخوة المسلمون: إن التاريخ السنوي لم يكن معمولًا به في أول الإسلام حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته رضي الله عنه كتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول له: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم فيقال: إن بعضهم قال: أرِّخوا كما تؤرخ الفرس بملوكها، كلما هلك ملِكٌ، أرخوا بولاية من بعده، فكرِه الصحابة ذلك، فقال بعضهم: أرخوا بتاريخ الروم، فكرهوا ذلك أيضًا، فقال بعضهم: أرخوا من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: من مبعثه، وقال آخرون: من مهاجره، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل؛ فأرخوا بها، فأرخوا من الهجرة واتفقوا على ذلك، ثم تشاوروا من أي شهر يكون ابتداءً السنة؟   فقال بعضهم: من رمضان؛ لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن.   وقال بعضهم: من ربيع الأول؛ لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرًا، واختار عمر وعثمان وعليٌّ أن يكون من المحرم؛ لأنه شهر حرام يلي ذي الحجة الذي يؤدي فيه المسلمون حجهم الذي به تمام أركان الإسلام، والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم، والعزيمة على الهجرة، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر الحرام، وحصل إجماعٌ من الصَّحابة الكرام على ذلك.   ووجب على المسلمين الإذعانُ لهذا الأمر لقوله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)).   فصارت حادثة الهجرة النبويَّة منطلَقًا للتَّاريخ العربيِّ الهجريِّ. قلت ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.   الخطبة الثانية أما بعد: أيها الكــرام: الهجرة أنواع؛ فنبيُّنا صلى الله عليه وسلم قد هاجَرَ من مكان لمكان من أجل دعوة ربِّه ورسالته التي حملها، فما علينا إلا أن نهاجرَ على الأقل بأعضائنا ونوايانا؛ هجرة القلب إلى الله، وهذه فريضة عامة لا يُعذر منها مسلم.   إنها هجرة النُّفوس قبل البيوت، إنها هِجرة القلوب قبل القصور، هجرة للأعضاء؛ ليكون للذكرى أثر في الحياة والتغيير إلى الأفضل.   فتهجر أعينُنا النظر إلى الحرام وتتخلق بخُلُق النبي الكريم العفيف، والذي كان يغضُّ بصره دومًا وأبدًا عنِ الحرام.   وتهجر أسماعُنا الإنصات إلى الحرام أو التلذُّذ بكلمات خبيثة نابية، فلا تستمع إلا إلى الحلال الطيب، وهكذا كل أعضائنا تجتهد أن تهاجر إلى الله ربها.   قال تعالى: ? وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ? [المدثر: 5]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)).   وهجرة العصاة ومجانبة مخالطتهم: قال الله تعالى: ? وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ? [المزمل: 10].   وهجرة للنوايا والقلوب والإخلاص في التوجه إليه في السر والعلانية بأن ينوي الإنسان أنه مهاجر إلى الله من الذنوب إلى التوبة، حتى إذا أدركته المنيَّة، فليقع أجره على الله.   عباد الله: إذاً فالمطلوبُ مِن كلٍّ منَّا أن يهاجر: يهاجِر مِنَ المعصية إلى الطاعَة. مِن الفردية الأنانية إلى الجَماعة. مِن الكسل إلى العمل. مِن القنوط إلى الأمَل. مِن الضَّعْف إلى القوَّة. ومِن التسفُّل إلى القِمة. مِن الذلَّة إلى العِزَّة. من الحِصار إلى الانتشار. ومِن الانكسارِ إلى الانتِصار. مِن الانكفاءِ على الذات إلى الاهتمامِ بشأن المسلمين. مِن التعصُّب للرأي إلى النزولِ علَى الشورى. مِن مصلحة الفرْد إلى مصلحةِ المَجْموع.   مِن حياةِ الهوان والحِرْمان إلى حياةِ الإيمان والإحسان.   وهكذا نجِدُ أنَّ الهِجرةَ سلوكٌ واجب ومستمرٌّ علينا أن نباشِرَه ونمارسَه على كلِّ المستويات وفي جميعِ الأوقات، وأخلاقٌ عالية وقِيَم رفيعة يجب أن نَحْياها ونعيشها.   فيا عبدالله، سطِّر صَفحات حياتك صلاة فجر، وقيام ليل، وقراءة قرآن، وطاعة والِدَيْن، وحُسن جُوار، وأمرًا بمعروف، ونهيًا عن مُنكَر، وإحقاقَ حقٍّ، وإبطالَ باطلٍ، طاعة وانقِيادًا.   عبدالله: أنت إذا احتَجتَ إلى الطَّعام تَسعَى لكسب الحلال (حركة).   إذا احتَجتَ إلى المرأة تسعى إلى الزواج (حركة).   إذا احتَجتَ إلى إثبات الذات تَسعَى للجد والاجتهاد من أجل التفوُّق (حركة).   فلماذا لا تتحرَّك من أجل دينك إسلامك ربك عقيدتك؟!   لا تَظلِم نفسك بالقعود، بالجلوس، بالركون، بالسكون، وإلا كنت من أهل هذه الآية: ? إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ? [النساء: 97].   لا تَبقَ مع العصاة والمقصرين المذنبين أو المُنافِقين أو الكذَّابين، اهجُرهُم؛ إنها الهجرة بمعناها الواسع، ولا تَبقَ مع أصحاب الذُّنوب والآثام.   اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، واخذل الطغاة والمفسدين وسائر أعداء الدين. اللهم من حضر هذه الجمعة فاغفر له ولوالديه وافتح لسماع الموعظة قلبه وأذنيه. اللهم احفظ بلادنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.   اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، واحفظ بلادنا، واقضِ ديوننا، واشفِ أمراضنا، وعافِنا واعفُ عنا، وأكرمنا ولا تُهِنَّا، وآثرنا ولا تؤاثر علينا، وارحم موتانا، واغفر لنا ولوالدينا، وأصلح أحوالنا، وأحسن ختامنا يا رب العالمين.   ? إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ? [الأحزاب: 56]. "
شارك المقالة:
23 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook