"فقه الهجرة الكبرى (3- تخطيط الانطلاق) أذن الله - تعالى - في الهجرة، فبدأ التخطيطُ والتدبير، وبدأت الدروس والعبر. وأول ذلك: 1- حكمة التوقيت: ? لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ? [الرعد: 38]. والحكمة تقتضي اختيارَ وقتِ العمل، بل هذه حكمة الله في الخلق أجمع، إنَّ بَعْضَ النَّبَات إذا خالف غرسُه وقتَه، مات. وقد غرس الله كُلَّ بذرة في وقتها التام. فالوقتُ الذي هاجر فيه الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان الإسلام قد استَقَرَّت ملامِحُه في الأذهان، وطاب مذاقه في القلوب. وكان البناء الأضخم - بناء الرجال - قد اكتمل، وانتشرت قضيةُ الإسلام على لسانِ أقوام في الحبشة ومكة والمدينة، فتم بلاغُ العقيدة خير تمام، وشرع الرسولُ في بلاغ أصول الشريعة، وبقي تمام بلاغ الشريعة. وتَحتاج الشريعة إلى مُجتمع يعمل بالتشريع، فلا بُدَّ من الهجرة؛ لتكوين هذا المجتمع المبين. وانفتح البابُ على مِصراعيه لاستقبالِ المهاجرين ونصرتهم أشَدَّ النصرة، بعقد بيعة العقبة الأولى والثانية، فتم بذلك ميقاتُ الهجرة ميقاتًا أنسب وحكمةً تَمَّاء. والدليل على كون الهجرة قُدِرَ لَها ميقاتُها: هذا الحديث عن عائشة - رضي الله عنها -: استأذن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أبو بكر في الخروج حين اشتَدَّ عليه الأذى، فقال له: ((أقم))، فقال: يا رسول الله، أتطمع أن يؤذن لك؟ فكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إني لأرجو ذلك))، قالت: فانتظره أبو بكر، فأتاه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذاتَ يومٍ ظُهرًا، فناداه، فقال: ((أَخْرج من عندك))، فقال أبو بكر: إنَّما هما ابنتاي، فقال: ((أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج))، فقال: يا رسول الله، الصحبة، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الصحبة))؛ [البخاري: 4093]. فأبو بكر كان يستعجل الهجرة، وكان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستمهله، حتى أذن الله له، فدَلَّ على أن وقتها الأنسب لم يكن حان حين تَعَجَّلَ أبو بكر ذلك، حتى كان الحين الذي أخبر فيه الرسول بإذن الله له في الهجرة. والحديث السابق يسوقنا للكلام على نقطة تالية: 2- حكمة الصحبة: قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب))؛ [مسند أحمد: 6748]. فالصحبة أمر واجب عند الاستيحاش في طريق السفر؛ حيث لا أنيس؛ ولذلك اصطحب الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم، وإن كان في غنى بالله - مَن كانوا معه. أبو بكر الصديق خير رفيق، ومَن غيره يقوم هذا المقام؟! من غيره يستحق أن يُتْحَف بهذا الشرف الأسمى؟! وعامر بن فهيرة وابن أريقط. وفي الصحبة معانٍ أُخَر. فلا بُدَّ أن يكون في هذه الرحلة المباركة مَن يَحكيها، ويشاهد عجائبها. ولا بُدَّ أن يكون في الأمة مَن يشارك الرسول الكريم هذه التضحية الكبرى؛ حتى لا يكون الرسول وحْدَه مَن يَحمل أمانة هذا الدين وهَمَّ هذا الدين؛ لأَنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يريد رجالاً يبقون من بَعْده مصابيحَ، فلا بد أن يشعلهم ما أشعله من قبس الهدى، ويذكيهم ما أذكاه من العمل لله. ولكن ثَمَّةَ فكرة لا يحسن المرور عليها بغير بيان، وهي أنَّ المسلمَ إذا كان صاحبًا، فإنه يكون عونًا لا عبئًا. تروي أمُّنا عائشة - رضي الله عنها - أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - حين أعلمه الرسول بالصحبة، كان قد جَهَّز ناقتين للرحلة - وقد كان يتوقعها - وقال: يا رسول الله، إنَّ عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما، قال: ((قد أخذتها بالثمن))؛ [البخاري: 2138]. لم يَرَ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا أبو بكر حَرَجًا في البيع والشراء، ومن هما معًا؟! من هما؟! وإنَّما أعلّق على هذه النقطة؛ لأَنِّي أجد كثيرًا من الأصحاب يستحيي بعضُهم من بعض في التعامُلات المادية، وقد يأتي على نَفسِه ويُحمِّلها ما لا تُطيق من باب التفضُّل والتنازُل والتسامُح في البيع والشراء. وآخرون يعتمدون على رأس (الأُخُوة) حتى يدفنوها في التراب ويقتلوها بسيف الحياء، وهذا من التكلُّف الذي نهى الله عنه، فمن كان مُحتاجًا هو وأهله، فنفسه أولى من أخيه الغني، ومن كان غنيًّا، فهو في مقام التنازُل والتفضل. وكم أنفق أبو بكر على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان يرضى الرسول في مقامها! ولكنه في هذا المقام كان لا بُدَّ أن يرفض، وأن يأخذها بالثمن. والعلة - والله أعلم - أنَّ الرسول لو كان قبلها، لقال قائل: إنَّما استصحبه لأجل مواهبه له، فلَعَلَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أراد بيانَ فضل أبي بكر عنده، وأنه - لِطيب نفسه وحسن إيمانه - استحق صُحبةَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم. 3- حكمة التخطيط: كثير ممن تناولوا أحداثَ الهجرة ذكروا قضيةَ التخطيط والعمل المنظم؛ لأَنَّ ذلك ظاهر من أول يوم. اختيار الليل منطلقًا لهما: تواعد الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع أبي بكر أنْ يتقابلا في الليل، والليل سر أمين. وقد اختار الله - تعالى - الليلَ من قبلُ لإسراءِ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومن قبل ذلك أَمَر به لوطًا - عليه السَّلام -: ? فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ? [هود: 81]. وهو اختيارُ الناس عمومًا فيما يراد إتمامه، ولما في الكتمان من حِكْمَة نَصَحَ بها الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان؛ فإنَّ كلَّ ذي نعمة محسود))؛ [الصحيحة مختصرة: 1435]. الاختباء في غار قريب: انطلق الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليلاً إلى بيت أبي بكر، ومنه إلى جبل ثَوْر، فاختبأا بغارٍ فيه يبعد عن مكة خمسةَ أميال. وحكمة ذلك أنَّه لا يُناسب أن ينطلقوا بحالهم ورحالهم مَرَّةً واحدة؛ إذ سيكون الطَّلَب على أشده، وإنَّما كان الاختباء وسيلة لفتور الطَّلب، وكان في غار قريب؛ حتى لا تبعد عنهما الأخبار، ولا يشق نقلها على ناقلها إليهما. وبقيا فيه ثلاثةَ أيام، فلا هي بالقصيرة التي لا تُحقق فتورَ الطلب، ولا بالطويلة التي تُضَيِّع الوقتَ بلا طائل. تنظيم العمل: خلال هذه الأيام الثلاثة أعطى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كُلَّ امرئ مهمته: • أسماء تنقل الطعام والشراب. • عبدالله بن أبي بكر ينقل الأخبار. • عامر بن فهيرة يُعفي الأثر. • عبدالله بن أريقط دليلُ الرحلة. وتَمَّ اختيارُ كلِّ فرد بحكمة شديدة. • فأسماء وعبدالله ولدا أبي بكر، فهذا رسولُ الله وأبوهما؛ ليكونا أحْرَصَ العالمين على كتم أمرهما، ولو كان فيه هلاكهما. • وأسماء المرأة شأنها الطعام، وإحكام أمره، قالت عائشة - رضي الله عنها -: فجهزناهما أحَثَّ الجهاز، وصنعنا لهما سُفْرَة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعةً من نطاقها، فربطت به على فَمِ الجراب، فبذلك سُمِّيت ذات النطاقين؛ [البخاري: 3905]. • وعبدالله الرجل شأنه الأخبار، استمعوا إلى عائشة - رضي الله عنها - تقول عنه: وهو غلام شاب ثقف لقن، فيُدلج من عندهما بسَحَر، فيصبح مع قريش بمكة كبائتٍ، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلاَّ وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يَختلط الظلام...؛ [البخاري: 3905]. وهو من أحرار مَكَّة سيجول في نواديها كيف شاء، وله أصحاب شباب في مثل سِنِّه لا شك يتحدثون بما ينويه آباؤهم في مُطاردة الرسول وصاحبه، فيسعفه إدراكه في وَعْيِ الكلام، ويسعفه ذكاؤه في الرَّدِّ وحُسْن التصرف. • وأما عامر بن فهيرة، فكان يرعى إبلَ أبي بكر، وكان أخًا لعائشة من أُمِّها، فكان واحدًا من الأسرة، يهمه ما يهمُّها، وكان مُناسبًا أن يخدم أبا بكر، فهو يرعى إبله، وكان مُناسبًا أن يستعمل الشياه في بعثرة الأثر من على جبين الرمال. وأمَّا عبدالله بن أريقط، فتُبيِّن السيدة عائشة - رضي الله عنها - أمره: واستأجر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر رجلاً من بني الدِّيل، ثم من بني عبد بن عدي هاديًا خِرِّيتًا - الخريت الماهر بالهداية - قد غمس يمينَ حِلْفٍ في آل العاص بن وائل، وهو على دين كفار قريش، فأَمَّناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غارَ ثَوْر بعد ثلاثِ ليالٍ، فأتاهما براحلتيهما صبيحةَ ليالٍ ثلاث، فارتحلا؛ [البخاري: 2263]. يقول ناس: لا مشكلةَ في استخدامِ الكُفَّار واستئمانهم، بل قد يستأمنون منهم قومًا ولا يستأمنون إخوانهم المسلمين، ويقولون: قد استأمن الرسولُ عبدالله بن أريقط. ولولا هذا الحلف ما أمَّنَّاه، ولولا أمانهما ما استعملاه. وهذا عمر بن الخطاب كان يكره أن تكثُر العلوج بالمدينة، فكان ما كان لَمَّا خالفوه. ونحن في هذه الأيام في ضوء حقوق الإنسان والتسامُح الإسلامي نستأمن على اقتصادنا واجتماعِيَّاتِنا وأمننا مَن لا يقول: لا إله إلا الله، فأيَّ شيء يتقي الكافر حتى نستأمنه؟! خطة المسير: سلك الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - طريقًا وَعِرًا ضيقًا غير تلك الطريق الشمالية، التي كان الناس يعهدونها، وهي الطريق الواسعة الموصلة بين مكة والمدينة. سلك الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - جنوبًا؛ حيث لا يتوقع ذهنٌ سلوكَ هذي الطريق. كذلك: فإنَّها ستكون آمنة بقدر ما هي غير مسلوكة، فقد حَقَّق الرسول بذلك أمرين: خداع الكفار، والبعد عن الأنظار. وكان ذلك من بيت أبي بكر، حتى انتهوا إلى جبل ثَوْر، وكذلك من غار ثَوْر إلى حيث سلك بهم ابن أريقط جنوبًا، ثم سلك بهم طريقَ السواحل متوجِّهًا من جديد إلى الشمال نحو المدينة بعد أن أَفلت من أنظار الطالبين. "
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.