تُعرَّف الهجرة في اللغة بأنّها: تَرك مكان مُعيَّن، والانتقال إلى مكان آخر، أمّا الهجرة في سبيل الله، فهي في الاصطلاح الشرعيّ تعني: هجر البلاد التي لا تدين بالإسلام إلى بلاد الإسلام، وقد أمرَ الله -عزّ وجلّ- عباده بتَرك المكان الذي يتعذّر فيه نشر تعاليم الإسلام إلى أرض الله؛ حيث يمكنهم تنفيذ ما أمر الله به، قال -تعالى-: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)، وللهجرة فضائل عديدة كما يأتي:
أذن رسول الله لأصحابه في شهر رجب من السنة الخامسة بعد بعثته -صلّى الله عليه وسلم-، بالخروج من مكّة المُكرَّمة، والتوجُّه إلى أرض الحبشة، وكان عددهم آنذاك اثنا عشر رجلاً وأربع نساء، وقِيل إنّهم كانوا أحد عشر رجلاً وامرأتان، ومنهم: عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله، وابن عتبة ومعه زوجته سهلة، ومصعب بن عمير، والزبير بن العوّام، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو سلمة وزوجته أم سلمة، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وزوجته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة، وسهيل بن بيضاء، ثمّ لحق بهم جعفر بن أبي طالب، واستمرّ المسلمون باللحاق بهم؛ منهم من كان يخرج بنفسه، ومنهم من يصحب أهله معه، فكان مجمل العدد باستثناء الأطفال أو من وُلِدوا هناك ثلاثة وثمانين رجلاً.
وقد كان رسول الله -عليه السلام- حريصاً على الاطمئنان عن أصحابه، والسؤال عنهم؛ فلمّا خرج عثمان بن عفان ومعه رقية بنت رسول الله، وصل إلى رسول الله خبرهما من قِبل امرأة قرشيّة، فسألها عن الحال الذي رأتهم عليه، فأخبرته أنّ رقية كانت تركب الحمار، وعثمان يقودها، فدعا رسول الله لهما بحفظ الله، وقال إنّ عثمان بن عفان هو أوّل من هاجر بصحبة أهله بعد لوط -عليه السلام-.
لمّا خرج المسلون إلى الحبشة، وكان ذلك في شهر رجب، أقاموا في الحبشة بقية شهر رجب وشعبان، حتى إذا جاء رمضان عادوا إلى مكّة المُكرَّمة، وفي يوم من الأيّام حضر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إلى الحرم بوجود سادات قريش وكبارها، وبدأ بقراءة سورة النجم، وعندما وصل إلى السجدة فيها سجد، وتبعه جميع من كان حاضراً من المسلمين والمشركين، إلّا اثنين، هما: أمية بن خلف، والمطلب بن أبي وداعة؛ حيث ورد عن عبدالله بن مسعود عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (أنَّهُ قَرَأَ والنَّجْمِ فَسَجَدَ بهَا، وسَجَدَ مَن معهُ، غيرَ أنَّ شيخًا أخَذَ كَفًّا مِن تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إلى جَبْهَتِهِ، فَقَالَ: يَكْفِينِي هذا قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَلقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا).
وقد أسلم حمزة بن عبد المطلب، وبعد ثلاثة أيام أسلم عمر بن الخطّاب، وفُتِح بإسلامهما البابُ أمام دخول الكثير من الأمم في الإسلام، والتخفيف من عذاب قريش تجاه المسلمين، كما شَهد المسلمون بإسلامهما رخاءً لم يشهدوه منذ سنوات، ولمّا وصلت أخبارهم إلى أصحابهم في الحبشة، فرحوا لفرحهم، وبدأ الحنين يأخذهم من أجل العودة إلى ديارهم؛ حيث بلاد آبائهم وأجدادهم، والكعبة والبيت الحرام، ولربّما كان الوقت مناسباً لذلك، وبالتزامُن مع هذه الأحداث اتّفقوا على العودة، فخرجوا راجعين إلى مكّة، ومنهم عثمان بن مظعون، فلمّا وصلوا أدركوا أنّ ما سمعوه لم يكن صحيحاً، فما كان منهم إلّا أن عادوا إلى الحبشة مرّة أخرى برفقة أناس آخرين، وبذلك كانت الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة.
وكان ممّن هاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية أم حبيبة بنت أبي سفيان التي هاجرت برفقة زوجها عبدالله بن جحش، إلّا أنّه ارتدّ عن الإسلام، واعتنق النصرانيّة، ومات عليها، فأرسل رسول الله عمرو بن أمية إلى النجاشي، وطلب منه أن يزوّجها لرسول الله، وكانت قد رأت في منامها أنّ أحداً يناديها بأمّ المؤمنين، ولم يلبث أن تحقّق ما رأته، إذ دخلت عليها الجارية تُبشّرها بأنّ رسول الله يريد أن يَعقد عليها، فوكّلت خالد بن سعيد ليكون وليّها في العقد، وتمّ العَقد بين وكيلها والنجاشيّ، ومُنِحت الجارية خلخالَين، وخواتم من الفضّة؛ جزاءً لها بما بشّرتها به.
لمّا أحسّت قريش أنّ وضع المسلمين يصير إلى الطمأنينة والاستقرار في الحبشة، تشاوروا فيما بينهم، واتّفقوا على إرسال شابَّين منهم إلى النجاشيّ؛ كي يطردهم، ويعيدهم إلى مكّة، وجمعوا الكثير من الهدايا، وأرسلوها إليه مع عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، ولم تقتصر الهدايا عليه فقط، بل شَمِلت حاشيته أيضاً، فلم يبقَ أحد إلّا وأهدوه هدية، وحرّضوهم ضدّ من قَدِموا إليهم من مكّة، وأوصوهم بأن يُشيروا على ملكهم بتسليم أهل مكّة إليهم، فوافقوا على ذلك، ثمّ ذهبوا إلى النجاشيّ، وقدّموا له الهدايا الخاصّة به، وقالوا له: "إنّه قد لجأ إلى بلدك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشيرتهم، لتردّهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه".
أيّد قوم النجاشيّ رسولَي قريش في كلامهما، فما كان من النجاشيّ إلّا أن رفض ما طلبوه، وأخبرهم أنّه لن يُسلمهم إليهم حتى يأتي بهم، ويسألهم عمّا قالاه فيهم، فإن قالوا إنّه صحيح سلّمهم إليهما، وإلّا فلا، فلمّا أحضرهم وسألهم، تكلّم منهم جعفر بن أبي طالب، وأخبره بما كانوا عليه في الجاهلية من الفسوق، والعصيان، وما هم عليه الآن من توحيد الله، والصدق، والأمانة، وحُسن الجوار، وما تعرّضوا له من تعذيب قريش؛ كي يرتدّوا إلى عبادة الأصنام، وقال له إنّهم اختاروه على من سواه؛ طمعاً فيما عنده من العدل، وحُسن الجوار، فطلب منه النجاشيّ أن يقرأ عليه بعضاً ممّا أُنزِل على نبيّه، فقرأ عليه بعضاً من فواتح سورة مريم، فبكى حتى ابتلّت لحيته، وبكى معه قومه، وأخبر القرشيَّين أنّه لن يُسلّمهم إليهما أبداً.
توعّد عمرو بن العاص للمسلمين، فذهب في اليوم التالي وأخبر النجاشيّ أنّ المسلمين يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، وطلب منه أن يسألهم عن شأنهم فيه، فلمّا سألهم أخبره جعفر بأنّ عيسى بن مريم هو عبدالله ورسوله وروحه، فوافقهم النجاشيّ على ذلك، وأعطاهم الأمان، وأعاد إلى القرشيَّين هداياهما، فخرجا من عنده خائبَين، وعاش المسلمون في بلاد النجاشيّ آمنين مُطمئنِّين.
عاد المسلمون إلى الحبشة في المرة الثانية -كما تقدّم-، وكان ذلك في العام السابع من البعثة، إلّا أنّ مدّة إقامتهم هذه المرة كانت طويلة؛ حيث ظلّوا هناك إلى ما بعد غزوة خيبر، ولم تكن إقامتهم برغبة منهم، وإنّما بأمر من رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، ومن الأحداث التي حصلت أثناء وجودهم في الحبشة: الهجرة النبوية إلى المدينة المُنوَّرة، وتأسيس الدولة الإسلاميّة، وعلى الرغم من احتياج النبيّ إليهم؛ لأنّ عددهم كان كبيراً، إلّا أنّه لم يطلب منهم العودة، كما وقع الكثير من الغزوات العظيمة، كبَدر، وأحد، وبني قينقاع، وبني النضير، وصلح الحديبية الذي كان حدثاً مهماً في مسيرة الدعوة الإسلاميّة، والذي به أشعرَ المسلمين بوجودهم، ولمّا أحسّ رسول الله بثبات دولته بعث عمرو بن أمية إلى المهاجرين في الحبشة؛ كي يطلب منهم العودة، وكان ذلك في السنة السابعة من الهجرة بعد فَتح خيبر.
بعد مرور ما يُقارب الخمس سنوات من الدعوة السرّية، وبَذل قريش ما بوسعها؛ من أجل إيقاف هذه الدعوة، والوقوف في طريقها، ومع ثبات رسول الله وأصحابه، بدأت قريش تنهال على المسلمين بكلّ ما تملكه؛ بهدف تعذيبهم، وما كان منهم إلّا أن صبروا على هذا العذاب، إلّا أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كان مُحاطاً بحماية من قومه، وعمّه أبي طالب، فلم يصل إليه ما وصل أصحابَه من العذاب، ولم يكن يملك حمايتهم ممّا هم فيه، ثمّ بتفكير من رسول الله، وتأييد من الوحي، جاء الإذن بالهجرة من مكّة؛ لتكون فترة يستريح بها الصحابة ممّا هم فيه، ويكملوا مسيرتهم في نَشر الإسلام، قال -تعالى-: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)، فاقترح رسول الله أرض الحبشة؛ لما فيها من عَدلِ حاكمها، وصِدقه إلى أن يجعل الله لهم فرجاً، ومخرجاً، فخرجت مجموعة من الصحابة إلى الحبشة، وكانت هذه الهجرة أوّلَ هجرة في الإسلام، علماً بأنّ الحبشة اسمٌ نُسِب إلى الأرض؛ بسبب الناس الذين كانوا يعيشون في تلك المنطقة، وهم الأحباش، وهي الآن تمثّل دولة إثيوبيا،
وقد كان المسلمون آمنين في ظلّ النجاشي، أمّا ما تحقّق من نتائج لهذه الهجرة فهو ما كان إلّا دليلاً على حِنكة رسول الله، وحِكمته في تدبير شؤون قومه، ويمكن إجمال أسباب الهجرة بعدّة أمور، منها:
ولم تقتصر الهجرة على المُستضعفين، والفقراء الذين كانوا في مكّة، بل كان أكثرهم ممّن لهم المال، والحماية، والقوة فيها، كعثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، وهذا من أهمّ الأدلّة على أنّ السبب الرئيسيّ للهجرة لم يكن ضعف المسلمين، وتعرُّضهم للأذى من قِبل قريش فقط، وإنّما كانت هناك أسباب أخرى دفعتهم إلى ذلك، وقد عدّ رسول الله الهجرة إلى الحبشة بمثابة الهجرة إلى المدينة، وفيما يلي بيان للأسباب التي دفعت النبيّ إلى السماح لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة:
أمّا في ما يتعلَّق بسبب اختيار الرسول للحبشة حتى تكون المكان الأول الذي يهاجر إليه المسلمون، ففيه عدّة أمور، منها: فراغ أرض الحبشة من القبائل العربيّة؛ فعدم وجود القبائل فيها يُغلق الباب أمام قريش للتحالُف معها، وتكوين قوة ضدّ المسلمين، كما أنّ ملك الحبشة وهو النجاشيّ كان معروفاً بعَدله؛ نتيجة عِلمه بالتوراة، والإنجيل، وقد عَرف أهل مكة عنه ذلك؛ بسبب حركة التجارة المُتبادلة فيما بينهم، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه عندما أشار عليهم بالهجرة للحبشة: (إنَّ بأرضِ الحَبَشةِ ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عندَه؛ فالحَقوا ببِلادِه حتى يَجعَلَ اللهُ لكم فَرَجًا ومَخرجًا. فخرَجْنا إليه أرسالًا، حتى اجتَمَعْنا، فنزَلْنا بخيرِ دارٍ إلى خيرِ جارٍ، أمِنَّا على دِينِنا)، كما أنّ أهل الحبشة يتّبعون بعض التعاليم المسيحيّة، قال -تعالى-: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ)، إلى جانب كونها أرضاً يعمُّها الأمان، والراحة، والطمأنينة. ومع أنّ الحبشة بعيدة عن مكّة -وقد يُعدّ هذا عيباً- إلّا أنّه كان لصالح المسلمين؛ نظراً لكونه بعيداً عن قريش وامتداد نفوذها، إلى جانب أنّها بلد مُستقِلّة سياسيّاً ولا تخضع لأحد، ولها اسمها، وقوّتها، وتجارتها، واقتصادها الخاص والعظيم بين القبائل، إضافة إلى أنّ تبادُل الهدايا والمراسلات فيما بينهم كان ممّا ساعد على تأمين الحماية، وتوفيرها لهم، ولاستقرارهم هناك.
كانت الهجرة إلى الحبشة بمثابة حركة فتحت الآفاق للمستقبل أمام الدعوة الإسلامية، وخروجها من نطاق المدينة المنورة؛ فالداعية الذكيّ لا يحدّ دعوته زمان ولا مكان، وإن لم يستجب له المَدعُوّون، فإنّه يُغيِّر مكان دعوته، ولا يتوقّف عنها، كما ساعدت الهجرة المسلمين في الثبات على دينهم، ليس ذلك وحسب، بل ساعدتهم أيضاً على نشر الإسلام في مكان غير مكّة المُكرَّمة.
وللصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة منزلة عظيمة عند الله -تعالى-، ويتّضح ذلك من خلال حوار أسماء بنت عميس؛ وهي من المهاجرات إلى الحبشة، وبين عمر بن الخطّاب حين كانت زائرة عند حفصة بنت عمر، فدخل عمر عليهما، ولمّا عرف أنّها أسماء، قال لها إنّهم أحقّ برسول الله من الذين هاجروا إلى الحبشة، فغضبت وقالت: (كذَبْتَ يا عُمَرُ كَلَّا، وَاللَّهِ كُنْتُمْ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ، وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا في دَارِ، أَوْ في أَرْضِ البُعَدَاءِ البُغَضَاءِ في الحَبَشَةِ، وَذلكَ في اللهِ وفي رَسولِهِ)، وأخبرت رسول الله بما دار بينهما من الحديث، فقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (ليسَ بأَحَقَّ بي مِنكُمْ، وَلَهُ وَلأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكُمْ أَنْتُمْ، أَهْلَ السَّفِينَةِ، هِجْرَتَانِ)، فزاد الفرح في قلوبهم.
موسوعة موضوع