"هل أوصى الرسول بالخلافة؟ مما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل في حياته ما يستفاد منه أنه أوصى أو عهدَ لعلي أو غيره من آل بيته وقرابته بالخلافة من بعده. يؤكد هذا القول تأكيدًا جازمًا الحوار الذي جرى بين العباس وعلي رضي الله عنهما أثناء مرضه صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح البخاري عن ابن عباس أن عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئًا، فأخذ بيده عباس بن عبدالمطلب فقال له: أنت - والله - بعد ثلاث عبدالعصا[1]، وإني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى من وجعه هذا، إني لأعرف وجوه بني عبدالمطلب عند الموت. اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنسأله فيمن هذا الأمر، إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه، فأوصى بنا، فقال علي: إنا والله لئن سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم[2]. هذا الحوار يسجل لنا الحقائق الآتية: 1- الزمن الذي جرى فيه، وهو إبان المرض الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2- أنه صلى الله عليه وسلم قبل هذا الحوار - أي طول حياته - لم يقل شيئًا يستفاد منه تصريحًا أو تلميحًا أن الخلافة لعلي، إذ لو كان شيء من هذا، لَذكره علي للعباس رضي الله عنهما، ولو كان هناك شيء يعلمه العباس لما تعرض لعلي يطلب منه ما طلب. 3- ويستفاد أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم لو ذكر شيئًا يتعلق بهذا الشأن بعد حوار العباس مع علي لانتشر وتناقله الناس، وبخاصة أن النفوس متطلعة لما يقوله صلى الله عليه وسلم في الساعات الأخيرة من حياته. ولو أسدلنا الستار على حوار العباس لوجدنا من النصوص ما يؤكد غير ما رغب به رضي الله عنه. فقد روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي البيت رجال، فيهم عمر بن الخطاب - قال النبي صلى الله عليه وسلم: هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم يقول: قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا[3]. وفي رواية، فقال: دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه وأوصاهم بثلاث قال: اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسي ابن عيينة - راوي الحديث - الثالثة[4]. وهذا الحديث يؤكد أن الكتاب لم يكتب، سواء أكان يتعلق بشأن الخلافة، أم بغيرها. بل هناك ما يؤكد أنه صلى الله عليه وسلم كان عزم على كتابة عهد، ثم ترك الكتابة من تلقاء نفسه، دون أن يثنيه عن عزمه أحد. فعن القاسم بن محمد قال: قالت عائشة: وارأساه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك فقالت عائشة: واثكلياه، والله إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذلك، لظللت آخر يومك معرسًا ببعض أزواجك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه، لقد هممت - أو أردت - أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد، أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون. ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون[5]. تلك فقرة كان لا بدّ منها ونحن نتحدث عن آل البيت رضي الله عنهم. كلمة أخيرة: ذكر القسطلاني في مواهبه: أن المأمون أراد أن يجعل الخلافة في بني فاطمة، فاتخذ لهم شعارًا وألبسهم ثيابًا خضرًا، ثم انثنى عزمه عن ذلك، فبقي ذلك اللباس شعارًا لهم، ولكنهم اختصروا ذلك إلى قطعة خضراء توضع على عمائمهم. ثم انقطع ذلك إلى أواخر القرن الثامن. ثم قال: قال في حوادث سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة من أنباء الغمر بأنباء العمر - لابن حجر -: وفيها أمر السلطان الأشرف أن يمتازوا عن الناس بعصائب خضر على العمائم، ففعل ذلك بمصر والشام وغيرهما. والأشرف هو شعبان بن حسن بن الناصر محمد بن قلاوون[6]. أقول: وهذا التميز في اللباس، أمر ما كان ينبغي لهم أن يوافقوا عليه، لمخالفته للقواعد العامة في الإسلام، فما كان صلى الله عليه وسلم متميزًا على أصحابه في شيء، حتى إن القادم إلى مجلسه ليسأل: أيكم ابن عبدالمطلب؟ وما كان علي وأبناؤه - وهم الملتزمون بسنته صلى الله عليه وسلم - يتميزون على الناس في شيء إلا كثرة الأعمال الصالحة. نعم: لقد خصهم الله تعالى بمزية، وهي حرمانهم من مال الصدقة، وذلك تكريمًا لهم لأنها أوساخ الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم. وهذا يعني دفعهم إلى العمل والعطاء حتى يكونوا إيجابيين في الحياة، يدهم العليا، إذ اليد العليا خير من اليد السفلى كما قال صلى الله عليه وسلم. وبهذا يكون تميزهم بأعمالهم الخيرة الممتدة حولهم في الحياة الدنيا، وكذلك أعمالهم في العبادة التي تنعكس آثارها على أجسامهم ووجوههم، وبهذا يكونون قدوة للناس ويظلون في مكان الريادة الذي هو مكانهم. وبهذا لن يكونوا بحاجة إلى لباس أو طراز يميزهم كما قال الشاعر: جعلوا لأبناء الرسول علامة إن العلامة شأن من لم يشهر نور النبوة في كريم وجوههم يغني الشريف عن الطراز الأخضر[7] تحذير: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عزَّ وجلَّ: ? وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ?[8] قال: يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا. يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئًا. يا عباس بن عبدالمطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا. ويا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا. ويا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا[9]. وفي رواية: يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبدالمطلب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها[10]. وفي رواية: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا..[11]. وقال صلى الله عليه وسلم: من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه[12]. [1] هو كناية عمن يصير تابعًا لغيره. أي أنت بعد ثلاثة أيام تصير مأمورًا عليك. [2] أخرجه البخاري برقم (4447). [3] متفق عليه (خ 5669، م 1637). [4] متفق عليه (خ 4431، م 1637). [5] أخرجه البخاري برقم (5666). [6] المواهب اللدنية للقسطلاني (3/374). [7] الشاعر هو الأديب أبو عبدالله بن جابر الأندلسي. وانظر المرجع السابق. [8] سورة الشعراء، الآية (214). [9] متفق عليه (خ 2753، م 206). [10] أخرجه مسلم (204). [11]أخرجه الترمذي (3185). [12] أخرجه مسلم برقم (2699). "
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.