"الإشارات الرشيقة بفضائل أم المؤمنين عائشة الصديقة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد: فقد تميزت شخصية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تميزًا سريعًا ما يأخذ بلُبِّ الباحث المطَّلع؛ فهي الفقيهة الحافظة، والمعلمة المربية، والزوجة الصالحة، والتقية العابدة، والصدِّيقة المجاهدة. شرف الأصل وعراقة النسب: أبوها هو أبو بكر الصديق التيمي رضي الله عنه، وأمها أم رومان بنت عامر الكنانية رضي الله عنها، فهي عربية قرشية، يلتقي نسبها مع نسب النبي صلى الله عليه وسلم في جدها السابع من جهة أبيها، ومن جهة أمها في الجد الحادي عشر. وُلدت في الإسلام فلم تعرف الجاهلية: لم تروِ لنا كتب التاريخ والسِّير تاريخ ولادة عائشة رضي الله عنها بالضبط؛ فقيل: وُلدت في العام الرابع من البعثة، وقيل: في الخامس؛ وقد أخرج البخاري في صحيحه (3905)، وأحمد في المسند (25626) أنها رضي الله عنها قالت: ((لم أعقِلْ أبويَّ قط إلا وهما يدِينان الدين)). زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة بوحيٍ من الله تعالى: روى البخاري (7011) ومسلم (2438) عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُرِيتكِ في المنام ثلاث ليالٍ جاءني بكِ الملك في سَرَقةٍ من حرير، فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهكِ، فإذا أنت هي، فأقول: إن يكُ هذا من عند الله يُمْضِه)). قال البغوي في شرح السنة (14/ 147): سرقة من حرير؛ أي: شقة منها، وهي اسم للأبيض، وقيل: هي كلمة فارسية، وأصلها سره؛ يعني: الجيد. وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بكرًا، ولم يتزوج بكرًا غيرها؛ فقد أخرج البخاري (5133) ومسلم (1422) عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: ((تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا بنت ست سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين)). وبهذا الزواج المبارك صارت رضي الله عنها أمًّا للمؤمنين، وهذا شرف خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ? النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ? [الأحزاب: 6]. أحبُّ النساء لقلب النبي صلى الله عليه وسلم: عاشت عائشة رضي الله عنها في كنف النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين، نعمت فيها بصحبته صلى الله عليه وسلم، وأحبها رسول الله حبًّا ما أحبه لغيرها من نسائه في زمانها؛ فقد أخرج البخاري (3662) ومسلم (2384) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: مِنَ الرجال؟ فقال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب، فعدَّ رجالًا)). عائشة رضي الله عنها من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: ? يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ? [الأحزاب: 32 - 34]. وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عباس في قوله: ? إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ? [الأحزاب: 33]، قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛[تفسير ابن كثير (6/410)]. نُبذة من فضائل عائشة رضي الله عنها: أولًا: النبي يذكر فضلها مع مَن كمَلْنَ من النساء؛ فقد أخرج البخاري (5418) ومسلم (2431) عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كمَلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غيرُ مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)). وأخرج البخاري (3770) عن عبدالله بن عبدالرحمن أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)). ثانيًا: هي زوجته في الدنيا والآخرة؛ فقد أخرج الترمذي وصححه الألباني عن عائشة رضي الله عنها: ((أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة)). وأخرج الحاكم في المستدرك (4/ 10)، وابن حبان في صحيحه (7095)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح، من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ((أما ترضين أن تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة؟ قلت: بلى والله، قال: فأنتِ زوجتي في الدنيا والآخرة)). وأخرج البخاري في صحيحه (7100)، وأحمد في المسند (18331) عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، أنه قال عن عائشة رضي الله عنها: ((والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة)). قال ابن حجر في فتح الباري (7/ 108): فلعل عمارًا كان سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر الحاكم في المستدرك عن الواقدي، حدثني عبدالواحد بن ميمون مولى عروة، عن حبيب مولى عروة قال: ((لما ماتت خديجة حزِن عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل بعائشةَ في مهدٍ، فقال: هذه تذهب ببعض حزنك، وإن فيها لَخَلَفًا من خديجة))؛ [الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (4/ 5)، كتاب معرفة الصحابة، باب تسمية أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم]. ثالثًا: تولى الله تعالى الدفاع عنها بأن أنزل براءتها في آيات تُتلى في كتابه المجيد، وذلك لما تكلم في عرضها المنافقون؛ قال تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ? [النور: 11 - 20]. وأجمع أهل السنة والجماعة على أن مَن سبَّ أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ورماها بما برأها الله منه - أنه كافر. رابعًا: نزول الوحي والنبي صلى الله عليه وسلم في فراشها، ولم يكن ذلك لامرأة سواها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخرج البخاري (3775) والترمذي (3879) من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة رضي الله عنها: ((يا أم سلمةَ، لا تؤذيني في عائشة؛ فإنه والله ما نزل عليَّ الوحيُ وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها)). خامسًا: جبريل عليه السلام يسلم على عائشة رضي الله عنها؛ فقد أخرج البخاري (3768) ومسلم (2447) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: ((يا عائش، هذا جبريل يقرئك السلام، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم)). سادسًا: نزول آية التيمم بسبب عائشة رضي الله عنها؛ فقد أخرج البخاري (3773) ومسلم (367) عن عائشة رضي الله عنها: ((أنها استعارت من أسماء قلادةً فهلكت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسًا من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فلما أتَوا النبي صلى الله عليه وسلم شكَوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: جزاكِ الله خيرًا؛ فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لكِ منه مخرجًا، وجعل للمسلمين فيه بركةً)). سابعًا: عن هشام عن أبي عن عائشة: ((أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [رواه مسلم، بشرح النووي 15/ 205]. وعن هشام عن أبيه، قال: ((كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، فقالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمُري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يُهدوا إليه حيث كان، أو حيثما دار، قالت: فذكرتْ ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأعرض عني، فلما عاد إليَّ ذكرت له ذلك، فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له، فقال: يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها))[1]. وعن ابن شهاب أخبرني محمد بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ((أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمةَ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنتْ عليه وهو مضطجع معي في مِرْطِي، فأذِن لها، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألْنَك العدلَ في ابنة أبي قحافة، وأنا ساكتة، قالت: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي بنية، ألستِ تحبين ما أحب؟ فقالت: بلى، قال: فأحبي هذه، قالت: فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتهن بالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن لها: ما نراكِ أغنيتِ عنا من شيء؛ فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة، فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبدًا، قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أرَ امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالًا لنفسها في العلم الذي تصدق به، وتقرب به إلى الله تعالى، ما عدا سَورة من حدة كانت فيها تسرع منها الفَينة، قالت: فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحالة التي دخلت فاطمة عليها وهو بها، فأذِن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، قالت: ثم وقعت بي فاستطالت لي، وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها، قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها حتى أنحيت عليها، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: إنها ابنة أبي بكر))؛ [رواه مسلم، بشرح النووي 15/ 205 - 207، النسائي، ج: 3، رقم: 3683]. ثامنًا: مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لحداثة سنها؛ فعن هشام بن عروة عن أبيه: ((أنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وكانت تأتيني صواحبي فكن ينقمن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إليَّ))؛ [رواه مسلم بشرح النووي، 15/ 204]. تاسعًا: وعن هشام عن أبيه عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعلم إذا كنتِ عني راضيةً وإذا كنت عليَّ غضبى، قالت: فقلت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال: أما إذا كنتِ عني راضيةً فإنكِ تقولين: لا وربِّ محمد، وإذا كنتِ غضبى، قلتِ: لا ورب إبراهيم، قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك))؛ [رواه مسلم، بشرح النووي 15/ 203]. عاشرًا: حب النبي صلى الله عليه وسلم أن يمرَّض في بيتها، ومات ورأسه بين سَحْرِها ونحْرِها ودُفن في بيتها؛ فقد أخرج البخاري (1389) ومسلم (2443) عن عائشة قالت: ((إنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيتعذر في مرضه: أين أنا اليوم؟ أين أنا غدًا؟ استبطاءً ليوم عائشة، فلما كان يومي، قبضه الله بين سحري ونحري، ودُفن في بيتي)). حادي عشر: ومن فضائلها أن الله تعالى جمع بين ريقها وريق النبي صلى الله عليه وسلم عند موته؛ فقد أخرج البخاري (4451) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((تُوفِّيَ النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه فرفع رأسه إلى السماء، وقال: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، ومر عبدالرحمن بن أبي بكر، وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فظننت أن له بها حاجةً فأخذتها، فمضغت رأسها، ونفضتها، فدفعتها إليه، فاستنَّ بها كأحسن ما كان مستنًّا، ثم ناولنيها فسقطت يده، أو سقطت من يده، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة)). دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: عن عائشة قالت: ((لما رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم طِيبَ النفس، قلت: يا رسول الله، ادعُ الله لي، فقال: اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر، وما أسرت وما أعلنت، فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الضحك، فقال: أيسرك دعائي؟ فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك؟! فقال: والله إنها لدعوتي))؛ [أخرجه ابن حبان في صحيحه، وحسنه الألباني]. وروى الإمام أحمد في مسنده (40/ 303) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأسير، فلهوت عنه، فذهب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل الأسير؟ قالت: لهوت عنه مع النسوة فخرج، فقال: ما لك؟ قطع الله يدك، أو يديَك، فخرج، فآذن به الناس، فطلبوه، فجاؤوا به، فدخل عليَّ وأنا أقلَّب يدي، فقال: ما لك، أجُننت؟ قلت: دعوت عليَّ، فأنا أقلب يدي، أنظر أيهما يُقطعان، فحمِد الله، وأثنى عليه، ورفع يديه مدًّا، وقال: اللهم إني بشر، أغضب كما يغضب البشر، فأيما مؤمن، أو مؤمنة، دعوت عليه، فاجعله له زكاةً وطهورًا)). منزلة أم المؤمنين عائشة عند الصحابة: كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم جميعًا يعرفون لعائشة قدرها الرفيع، ومكانتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويدل على ذلك ما ورد عن هشام عن أبي عن عائشة: ((أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة، يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [رواه مسلم، بشرح النووي 15/ 205]. ويدل على ذلك أيضًا ما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 187): عن مطرف بن طريف، عن أبي إسحاق، عن مصعب بن سعد، قال: فرض عمر لأمهات المؤمنين عشرة آلاف، عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين، وقال: إنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج البخاري (2468) ومسلم (1479) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لابنته حفصة رضي الله عنها: ((لا يغرنكِ أن كانت جارتكِ هي أوضأ منكِ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ يريد: عائشة)). وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 177): عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: انتهينا إلى علي رضي الله عنه، فذكر عائشة، فقال: خليلة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال الذهبي: هذا حديث حسن، وهذا يقوله أمير المؤمنين في حق عائشة مع ما وقع بينهما، فرضيَ الله عنهما. وعن الحكم سمعت أبا وائل قال: ((لما بعث عليٌّ عمارًا والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم، خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها))؛ [رواه البخاري (الفتح، 7/ 106)]. علمها بالفرائض والحلال والحرام: وعن مسلم بن صبيح قال: ((سألت مسروقًا: كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: والذي لا إله غيره، لقد رأيت الأكابر من أصحاب محمد يسألونها عن الفرائض))؛ [رواه الدارمي]. وقال عروة بن الزبير: ما رأيت أحدًا أعلم بالقرآن، ولا بفريضة، ولا بالحلال ولا بالحرام، ولا بفقه، ولا بطب ولا بشعر، ولا بحديث العرب ولا بنسب من عائشة؛ [الشريعة للآجري]. وقال الزهري: لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل. وعن موسى بن طلحة قال: ما رأيت أحدًا أفصحَ من عائشة؛ [رواه الترمذي 3/ 243]. فعاشت أم المؤمنين حياة حافلة بالأحداث، صابرة مجاهدة محتسبة، تنشر علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونُقل عنها كما يذكر من أرَّخوا لحياتها من المرويات 2210، وقد راجعت بعض الصحابة في عدد من المسائل؛ فقد أخرج الترمذي (3883)، وصححه الألباني، وعن أبي موسى الأشعري قال: ((ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عائشة، إلا وجدنا عندها منه علمًا)). وأخرج الآجري في الشريعة (1897) بسنده عن سعيد بن المسيب: ((أن أبا موسى الأشعري قال لعائشة رحمها الله تعالى: قد شق عليَّ اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أمر، إني لأفظعه أن أذكره لك، فقالت: ما هو؟ قال: الرجل يأتي المرأة ثم يكسَل فلا ينزل؟ فقالت: إذا جاوز الختان الختانَ، فقد وجب الغسل، فقال أبو موسى: لا أسأل عن هذا أحدًا بعدك)). استدراكات عائشة على الصحابة: ورد في مواضعَ شتى من مواضع العلم والفتوى استدراكُ أم المؤمنين على عدد غير قليل من الصحابة رضي الله عنهم؛ وذلك يؤكد علمها وفقهها ودرايتها بدقيق المسائل والفنون، وقد جمع عددًا من استدراكاتها الزركشي الشافعي في كتابه الإجابة لما استدركت عائشة على الصحابة، وهو مطبوع متداول. قال في مقدمته ص 4: فهذا كتاب أجمع فيه ما تفردت به الصديقة رضي الله عنها، أو خالفت فيه سواها برأيٍ منها، أو كان عندها فيه سنةً بينة، أو زيادة علم متقنة، أو أنكرت فيه على علماء زمانها، أو رجع فيه إليها أجلة من أعيان أوانها، أو حررته من فتوى، أو اجتهدت فيه من رأي رأته أقوى، موردًا ما وقع إليَّ من اختياراتها، ذاكرًا من الأخبار في ذلك ما وصل إليَّ من رواتها، غير مدعٍ في تمهيدها للاستيعاب، وأن الطاقة أحاطت بجميع ما في هذا الباب؛ إلخ. جهادها وعبادتها: أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس رضي الله عنه، قال: ((لما كان يوم أحد، انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقزان القرب، وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم)). وأما عن صدقتها، فقد ورد أن ابن الزبير بعث إلى عائشة بمال في غرارتين يكون مائة ألف فدعت بطبق، وهي يومئذٍ صائمة، فجعلت تقسم في الناس، قال: فلما أمست، قالت: يا جارية، هاتي فطري، فقالت: يا أم المؤمنين، أما استطعتِ فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحمًا تفطرين عليه؟ فقالت: لا تعنفيني لو كنت أذكرتني لفعلت[2]. وعن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تصوم الدهر، ولا تفطر إلا يوم أضحًى أو يوم فطر، وفي رواية: أن عائشة رضي الله عنها كانت تسرد الصوم[3]. عائشة في قلوب الأمة: قال القحطاني رحمه الله في نونيته مبينًا فضلها ومكانتها: أكرم بعائشة الرضا من حرةٍ بكرٍ مطهرة الإزار حَصانِ هي زوج خير الأنبياء وبِكْره وعروسه من جملة النسوانِ هي عرسه هي أنسه هي إلفه هي حبه صدقًا بلا إدهانِ وهذا الصحابي حسان بن ثابت رضي الله عنه، أنشد فيها شعرًا فقال: رأيتكِ وليغفر لك الله حرةً من المحصنات غير ذات غوائلِ حَصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غَرثى من لحوم الغوافلِ عقيلة حيٍّ من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدهم غير زائلِ مهذبة قد طيَّب الله خيمها وطهَّرها من كل سوء وباطلِ فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم فلا رفعت سوطي إليَّ أناملي وكيف ووُدي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافلِ له رتب عالٍ على الناس كلهم تقاصر عنه سورة المتطاولِ فإن الذي قد قيل ليس بلائطٍ ولكنه قول امرئ بي ماحلِ وحان وقت الرحيل: وختامًا: عاشت أم المؤمنين حياة حافلة بالأحداث، صابرة مجاهدة محتسبة؛ أخرج أحمد في المسند بسنده رقم (2496): ((أن عبدالله بن عباس استأذن على عائشة وهي تموت، فقالت: دعني من ابن عباس، فقال ابن أخيها عبدالله بن عبدالرحمن: يا أمتاه، إن ابن عباس من صالحي بنيكِ، ليسلم عليكِ ويودعكِ، فقالت: ائذن له إن شئت، قال: فأدخلته فلما جلس قال: أبشري، فقالت: أيضًا، فقال: ما بينكِ وبين أن تلقي محمدًا صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد؛ كنتِ أحبَّ نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيبًا، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يصبح في المنزل، وأصبح الناس ليس معهم ماء؛ فأنزل الله عز وجل: ? فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ? [النساء: 43]، فكان ذلك في سببكِ، وما أنزل الله عز وجل لهذه الأمة من الرخصة، وأنزل الله براءتكِ من فوق سبع سماوات، جاء به الروح الأمين، فأصبح ليس لله مسجد من مساجد الله يُذكر الله فيه إلا يُتلى فيه آناء الليل وآناء النهار، فقالت: دعني منك يا ابن عباس، والذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسيًا منسيًّا)). وعن القاسم بن محمد: ((أن عائشة اشتكت، فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين؛ تقدمين على فَرَطِ صدقٍ؛ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر))؛ رواه البخاري (الفتح 7/ 106)]. وكان وفاتها كما ذكر ابن حجر في الإصابة (8/ 20): في سنة ثمانٍ وخمسين في ليلة الثلاثاء، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان عند الأكثر، وقيل: سنة سبع ذكره علي بن المديني عن بن عيينة عن هشام بن عروة، ودُفنت بالبقيع. والله وحده من وراء القصد. [1] أخرجه البخاري (الفتح 7/ 107)، صحيح الترمذي 3/ 242، النسائي ج: 3، رقم 3688، 3689. [2] الزهد لهناد (619)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/47). [3] أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 187). "
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.