"إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّهَلًا بِعُمَر الحمد لله الولي الحميد، جعلنا من خير أمة أُخرجت للناس، خيرُ الخلق نبيُّها، وخير الأصحاب أصحابه، لا كان ولا يكون مثلهم، صفوة الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي أفضل الأمم وأكرمها على الله عز وجل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ أما بعد: فاتقوا الله معاشر المؤمنين، وجدِّدوا إيمانكم؛ فإنه يَخْلُق كما تخلق الثياب، وطالعوا سير أسلافكم من الصالحين؛ لعل القلوب أن تهتز لذكراهم فتسير على منهاجهم، فلا يعرف الفضلَ لأهل الفضل إلا أهلُ الفضل، ومِنْ أفضل خلق الله بعد الأنبياء والمرسلين أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد فعل. فمن يجاري أبا حفصٍ وسيرتَهُ أو من يحاول للفاروقِ تشبيهًا وإذا جرَّد ابن تيمية قلمه للكتابة عن عمر، علمنا أن نوعًا راقيًا من الكتابة يُشيَّد، ونظمًا بديعًا من المعاني يُنْثَر، فإذا انضم لذلك غضبة سُنية حنيفية دفاعًا عن أمير المؤمنين، الذي فرَّق الله به بين الحق والباطل، أيقنا بجزالة الكلم، وفخامة المعاني، ونصاعة البراهين، وقوة الأسلوب، فلله أبوه! ورحم الله امرأة درَّت عليه وحنَّت! حي المنازل إذ لا تبتغي بدلًا بالدار دارًا ولا الجيران جيرانًا فرضِيَ الله عن الفاروق، ورحم ابن تيمية، وجزاهما عن الإسلام خير ما جزى المصلحين والمجاهدين، ومن ذلك أن أحد رؤوس الرافضة، ويقال له ابن المطهر الحلي، ألَّف كتابًا في ذم السنة وأهلها، وملأه بالدجل الفاحش، والكذب الممجُوجِ، وسوء الأدب مع أفضل قرون الأمة، وموَّه ببعض الأغاليط، حتى راج على أشباه الأنعام، من الرافضة الذين دنْدَنُوا ببعض قَرْمَطَتِهِ وسَفْسَطَتِهِ عند أهل الحق، فرغبوا للجبل الأشم، والبحر الخِضَّم؛ شيخ الإسلام ابن تيمية - أن يهتك شُبَهَ الدجال الرافضي، فانبرى رحمه الله وأعلى نزله وجمعنا به ووالدينا ووالديه في عليين، فسطر كتابه الباهر: (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية)، فنقض شُبَهَ الرافضي شرعًا وعقلًا، فأعلى الله به السنة، وقمع به البدعة، وأطار به وساوس الرافضة، كما أطار عمر وساوس المفتونين إبان حياته، بالعلم والحجة والبرهان، وبالسيف والدرة والسنان، تلك المكارم لا قَعْبان من لبن؛ كأنما عناهما أبو تمام إذ قال: فما هو إلا الوحيُ أو حدُّ مرهف تميل ظباه أخدعي كل ماثلِ فهذا دواء الداء من كل عالمٍ وهذا دواء الداء من كل جاهلِ وسنذكر شيئًا مما رَقَمَهُ رحمه الله: قال: ومناقب عمر باب طويل، قد صنف الناس فيه مجلدات. فمن إجابة الله لدعوته؛ أنه دعا على أناس لما عارضوه في قسمة الأرض، فقال: اللهم اكفني فلانًا وذويه، فما حال الحول وفيهم عين تطرف. وأما خوف عمر من الله تعالى؛ ففي صحيح البخاري، عن المسور بن مخرمة قال: ((لما طُعن عمر، جعل يألم، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذلك، لقد صحِبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحِبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون، فقال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه، فإنما ذاك من الله منَّ به عليَّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه، فإنما ذاك من الله منَّ به عليَّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا، لافتديتُ به من عذاب الله قبل أن أراه)). وفي صحيح البخاري عن عمرو بن ميمون في حديث قتل عمر، قال: ((يا ابن عباس، انظر مَن قتلني، فجال ساعة ثم جاء، فقال: غلام المغيرة، قال: الصنع؟ قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفًا، الحمد لله الذي لم يجعل قتلي بيد رجل يدَّعي الإسلام، فقتيل الكافر أعظم درجة من قتيل المسلمين، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثُرَ العُلُوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقًا، فقال: إن شئت فعلت - أي: إن شئت قتلنا - قال: كذبت - أي: أخطأت - بعدما تعلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم، فاحتُمل إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذٍ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأُتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثم أُتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَدَمٍ في الإسلام ما قد علمت، ووُلِّيتَ فعدلتَ، ثم شهادة، قال: وددت أن ذلك كفافٌ لا عليَّ ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، فقال: ردوا على الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع إزارك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبدالله بن عمر، انظر ما عليَّ من الدَّين؟ فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا أو نحوه، قال: إنْ وَفَى له مال آل عمر فأدِّ من أموالهم، وإلا فَسَلْ في بني عدي بن كعب، فإن لم تفِ أموالهم وإلا فَسَلْ في قريش، ولا تَعْدُهم إلى غيرهم، فأدِّ عني هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدفَن مع صاحبيه. فسلَّم واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يُدفَن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأُوثِرَنَّه اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبدالله بن عمر وقد جاء، فقال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذِنَتْ، قال: الحمد لله، ما كان شيء أهمَّ من ذلك، فإذا أنا قضيتُ، فاحملوني، ثم سلِّم، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي، فأدخلوني، وإن ردتني، ردوني إلى مقابر المسلمين... وذكر تمام الحديث)). ففي نفس الحديث أنه يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راضٍ، ورعيته عنه راضون، مقرُّون بعدله فيهم، ولما مات كأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل مصيبته لعِظَمِها عندهم؛ وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشِرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم))، ومعلوم أن شهادة الرعية لراعيها أعظم من شهادته هو لنفسه؛ وقد قال تعالى: ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ? [الفاتحة: 143]، وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يُوشِك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار، قالوا: بمَ يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن وبالثناء السيئ))، ومعلوم أن رعية عمر انتشرت شرقًا وغربًا، ومع هذا فكلهم يصفون عدله وزهده وسياسته، ويعظمونه، والأمة قرنًا بعد قرن تصف عدله وزهده وسياسته، ولا يُعرَف أن أحدًا طعن في ذلك، ولم يقتل عمر رضي الله عنه رجل من المسلمين، لرضا المسلمين عنه، وإنما قتله كافر فارسي مجوسي. وخشيته من الله لكمال علمه؛ فإن الله تعالى يقول: ? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ? [فاطر: 28]. أما علمه، فقد ثبت من علم عمر وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر؛ ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: ((قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمرُ))؛ قال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهمون. وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا أنا نائم، إذ رأيت قدحًا أُتيت به، فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج من أظفاري، ثم أعطيتُ فضلي عمرَ بن الخطاب، قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم)). وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم، رأيت الناس يُعرَضون عليَّ، وعليهم قُمُصٌ منها ما يبلغ الثَّدْيَ ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين)). وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((قال عمر: وافقت ربي في ثلاث؛ في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر)). وفي الصحيحين: ((أنه لما مات عبدالله بن أبي بن سلول، دُعِيَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، قال عمر: فلما قام، دنوت إليه، فقلت: يا رسول الله، أتصلي عليه وهو منافق؟ فأنزل الله: ? وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ? [التوبة: 84]، وأنزل الله: ? اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ? [التوبة: 80])). وقد رُوي من وجوه ثابتة عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر، يقول به))، وفي لفظ: ((جعل الحق على لسان عمر وقلبه))، أو ((قلبه ولسانه))، وهذا مرويٌّ من حديث ابن عمر وأبي هريرة. وقد روى أحمد والترمذي وغيرهما عن عقبة بن عامر الجهني، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب)). والعلماء يعرفون قدر علمه وفقهه، ويخضعون لعدل عمر وعلمه. وأما التفاوت بين سيرة عمر وسيرة من ولي بعده، فأمرٌ قد عرفته العامة والخاصة، فإنها أعمال ظاهرة، وسيرة بينة، يظهر لعمر فيها من حسن النية، وقصد العدل، وعدم الغرض، وقمع الهوى ما لا يظهر من غيره؛ ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما رآك الشيطان سالكًا فجًّا، إلا سلك فجًّا غير فجك))؛ لأن الشيطان إنما يستطيل على الإنسان بهواه وعمر قمع هواه، وقال: ((إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه))، ووافق ربه في غير واحدة نزل فيها القرآن بمثل الذي قال، وقال ابن عمر: كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر؛ وهذا لكمال نفسه بالعلم والعدل؛ قال الله تعالى: ? وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ? [الأنعام: 115]، فالله تعالى بعث الرسل بالعلم والعدل، فكل من كان أتمَّ علمًا وعدلًا، كان أقرب إلى ما جاءت به الرسل، وهذا كان في عمرَ أظهرَ منه في غيره، وهذا ظاهر لكل أحد. أما زهده، فكان زاهدًا ورِعًا في كل شأنه، ولم يكن له غرض في فَدَك ولا غيرها، فلم يأخذها لنفسه، ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه، ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يقدمهم في العطاء على جميع الناس، ويفضلهم في العطاء على جميع الناس، حتى إنه لما وضع الديوان للعطاء وكتب أسماء الناس، قالوا: نبدأ بك؟ قال: لا، ابدؤوا بأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضَعُوا عمر حيث وضعه الله، فبدأ ببني هاشم، وضم إليهم بني المطلب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام))، فقدَّم العباس وعليًّا والحسن والحسين، وفرض لهم أكثر مما فرض لنظرائهم من سائر القبائل، وفضَّل أسامة بن زيد على ابنه عبدالله في العطاء، فغضب ابنه، وقال: تفضل عليَّ أسامة؟! قال: فإنه كان أحب إلى رسول الله منك، وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك، وهذا الذي ذكرناه من تقديمه بني هاشم وتفضيله لهم أمر مشهور عند جميع العلماء بالسير، لم يختلف فيه اثنان. أيها المؤمنون: لقد كان عمر عادلًا وقَّافًا عند كتاب الله تعالى؛ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((قدم عيينة بن حصن على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر كهولًا كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، فقال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذِن له عمر، فلما دخل عليه، قال: هِيَه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجَزْلَ، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضِبَ عمر حتى همَّ أن يُوقِعَ به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ? خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ? [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان عمر وقافًا عند كتاب الله)). وعمر رضي الله عنه من المتواتر عنه أنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم، حتى إنه أقام على ابنه الحدَّ لما شرب بمصر، بعد أن كان عمرو بن العاص ضربه الحد، لكن كان ضربه سرًّا في البيت، وكان الناس يُضرَبون علانية، فبعث عمرُ إلى عمرو يزجره، ويتهدده، لكونه حابى ابنه، ثم طلبه، فضربه مرة ثانية، فقال له عبدالرحمن: ما لك هذا؟ فزجر عبدالرحمن، وأخبار عمر المتواترة في إقامة الحدود، وأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم أكثر من أن تُذكَر. وقد بلغ من علمه وعدله ورحمته بالذرية أنه كان لا يفرض للصغير حتى يُفطَم، ويقول: يكفيه اللبن، فسمِع امرأة تُكْرِهُ ابنها على الفطام؛ ليفرض له، فأصبح فنادى في الناس: إن أمير المؤمنين يفرض للفطيم والرضيع، وتضرر الرضيع كان بإكراه أمه لا بفعله هو، لكن رأى أن يفرض للرضعاء ليمتنع الناس عن إيذائهم، فهذا من إحسانه إلى ذرية المسلمين. ومن المعلوم للخاص والعام أن عدل عمر رضي الله عنه ملأ الأفاق، وصار يُضرَب به المثل، كما قيل: سيرة العمرين، وأحدهما عمر بن الخطاب. وروى ابن بطة عن غالب بن عبدالله العقيلي، قال: ((لما طُعن عمر دخل عليه رجال، منهم ابن عباس، وعمر يجود بنفسه، وهو يبكي، فقال له ابن عباس: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: أما والله ما أبكي جزعًا على الدنيا، ولا شوقًا إليها، ولكن أخاف هول المطلع، قال: فقال له ابن عباس: فلا تبكِ يا أمير المؤمنين، فوالله لقد أسلمت؛ فكان إسلامك فتحًا، ولقد أُمِّرت؛ فكانت إمارتك فتحًا، ولقد ملأت الأرض عدلًا، وما من رجلين من المسلمين يكون بينهما ما يكون بين المسلمين فتُذكر عندهما إلا رضيا بقولك، وقنعا به، قال: فقال عمر: أجلسوني، فلما جلس، قال: أعِدْ عليَّ كلامك يا ابن عباس، قال: نعم، فأعاده، فقال عمر: أتشهد لي بهذا عند الله يوم القيامة يا ابن عباس؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا أشهد لك بهذا عند الله، وهذا عليٌّ يشهد لك، وعلي بن أبي طالب جالس، فقال علي بن أبي طالب: نعم يا أمير المؤمنين. عباد الله: لقد أعز الله بعمرَ الإسلام، وبسط له الثناء على ألسن المؤمنين، وقد أفرد العلماء مناقب عمر، فإنه لا يعرف في سير الناس كسيرته. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت كأني أنزع على قَلِيب بدلوٍ، فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذَنوبًا أو ذنوبين، وفي نزعِهِ ضعفٌ، والله يغفر له، ثم أخذها عمر بن الخطاب، فاستحالت في يده غَرْبًا، فلم أرَ عبقريًّا من الناس يفرِي فَرْيَه، حتى ضرب الناسُ بعَطَنٍ)). وقالت عائشة رضي الله عنها: كان عمر أحوذيًّا، نسيجَ وحدِه، قد أعدَّ للأمور أقرانها، وكانت تقول: زيِّنوا مجالسكم بذكر عمرَ. وروى الشعبي عن علي رضي الله عنه قال: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر. وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ما رأيت عمر قط، إلا وأنا يخيل لي أن بين عينيه ملكًا يسدده، وقال أيضًا: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر. وقال أيضًا: إذا ذُكِرَ الصالحون فحيِّهلًا بعمر، كان إسلامه نصرًا، وإمارته فتحًا، وقال أيضًا: كان عمر أعْلَمَنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، وأعرفنا بالله، والله لهو أبين من طريق الساعين؛ يعني: إن هذا أمرٌ بيِّن يعرفه الناس. وقال أيضًا: لو أن علم عمر وُضع في كِفَّة ميزان، ووُضع علم أهل الأرض في كفة، لرجح عليهم. وقال أيضًا لما مات عمر: إني لأحسب هذا قد ذهب بتسعة أعشار العلم، وإني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب مع عمر يوم أُصيب. وعن زيد بن وهب: ((أن رجلًا أقرأه معقل بن مقرن آية، وأقرأها عمرُ بن الخطاب آخرَ، فسألا ابن مسعود عنها، فقال لأحدهما: من أقرأكها؟ قال: معقل بن مقرن، وقال للآخر: من أقرأكها؟ قال: عمر بن الخطاب، فبكى ابن مسعود حتى كثرت دموعه، ثم قال: اقرأها كما أقرأكها عمر، فإنه كان أقرأنا لكتاب الله، وأعلمنا بدين الله، ثم قال: كان عمر حصنًا حصينًا على الإسلام، يُدخَل في الإسلام، ولا يُخرَج منه، فلما ذهب عمر انثلم الحصن ثُلْمَة لا يسدُّها أحد بعده، وكان إذا سلك طريقًا اتبعناه ووجدناه سهلًا، فإذا ذكر الصالحون فحيِّهلًا بعمر، فحيهلًا بعمر، فحيهلًا بعمر)). وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كان الإسلام في زمن عمر كالرجل المقبل، لا يزداد إلا قربًا، فلما قُتل؛ كان كالرجل المدبر، لا يزداد إلا بعدًا. وقال مجاهد: إذا اختلف الناس في شيء، فانظروا ما صنع عمر فخذوا برأيه. وقال أبو عثمان النهدي: إنما كان عمر ميزانًا، لا يقول كذا ولا يقول كذا. ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه قال: ((اللهم أعزَّ الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب، قال: فغدا عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم يومئذٍ))، وفي لفظ: ((أعزَّ الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك))، وعن ابن عباس قال: لما أسلم عمر، قال المشركون: قد انتصف القوم منا. وقال ابن مسعود: كان عمر حائطًا حصينًا على الإسلام، يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما قُتل عمر انثلم الحائط، فالناس اليوم يخرجون منه. وعن أم أيمن رضي الله عنها، قالت: وَهَى الإسلام يوم مات عمر. وعن القاسم بن محمد: كانت عائشة رضي الله عنها تقول: من رأى عمر بن الخطاب، علم أنه خلق غناء للإسلام، كان والله أحوذيًّا نسيجَ وحدِه، قد أعد للأمور أقرانها. وقال محمد بن إسحاق في السيرة: أسلم عمر بن الخطاب، وكان رجلًا ذا شكيمة، لا يرام ما وراء ظهره، فامتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُزُّوا، وكان عبدالله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب، فلما أسلم، قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه. وقال أبو المعالي الجويني: ما دار الفلك على شكله. وثبت عن طارق بن شهاب قال: إن كان الرجل ليحدث عمر بالحديث، فيكذب الكذبة، فيقول: احبس هذه، ثم يحدثه الحديث، فيقول: احبس هذه، فيقول: كل ما حدثتك به حق إلا ما أمرتني أن أحبسه. وعن ابن عمر أن عمر بن الخطاب بعث جيشًا، وأمَّر عليهم رجلًا يُدْعَى سارية، قال: فبينا عمر يخطب في الناس، فجعل يصيح على المنبر: يا سارية، الجبلَ، يا سارية، الجبلَ، قال: فقدم رسولُ الجيش، فسأله، فقال: يا أمير المؤمنين، لقينا عدونا فهزمونا، فإذا بصائح: يا سارية، الجبلَ، يا سارية، الجبل، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل، فهزمهم الله، فقيل لعمر بن الخطاب: إنك كنت تصيح بذلك على المنبر. وثبت عن قيس عن طارق بن شهاب، قال: كنا نتحدث أن عمر يتحدث على لسانه مَلَكٌ، وعن مجاهد قال: كان عمر إذا رأى الرأي نزل به القرآن. أيها الناس: لقد كان الشيطان يفْرَق من عمر؛ فعن مجاهد قال: كنا نتحدث أن الشياطين كانت مصفَّدة في إمارة عمر، فلما قُتِلَ عمر وَثَبَتْ. و((استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نساء من قريش يكلمنه، ويستكثرنه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر، قُمْنَ فابْتَدَرْنَ الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنَّك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجبت من هؤلاء اللاتي كنَّ عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب، فقال عمر: قلت: يا رسول الله، أنت أحق أن يَهَبْنَ، ثم قال عمر: أي عدوات أنفسهن تهبنني، ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلن: نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله: والذي نفسي بيده، ما لقِيَكَ الشيطان قط سالكًا فجًّا، إلا سلك فجًّا غير فجك))؛ [متفق عليه]، وفي حديث آخر: ((إن الشيطان يفِرُّ من حس عمر)). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية أما بعد: فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. يا عباد الله: حفظ الناس لعمر وصايا حسنةً نافعة، منها ما حدث به يحيى بن جعدة، قال: قال عمر رضي الله عنه: لولا ثلاثٌ لأحببتُ أن أكون قد لحقت بالله، لولا أن أسير في سبيل الله، أو أضع جبهتي في التراب ساجدًا، أو أجالس قومًا يلتقطون طيب الكلام كما يلتقط طيب الثمر. وكلام عمر رضي الله عنه من أجمع الكلام وأكمله، فإنه مُلْهَمٌ محدَّث، كل كلمة من كلامه تجمع علمًا كثيرًا، مثل هؤلاء الثلاث التي ذكرهن، فإنه ذكر الصلاة والجهاد والعلم، وهذه الثلاث هي أفضل الأعمال بإجماع الأمة. وقال ابن عباس: قال لي عمر: إنه والله يا ابن عباس ما يصلح لهذا الأمر إلا القوي في غير عنف، اللين في غير ضعف، الجواد في غير سرف، الممسك في غير بخل، قال: يقول ابن عباس: فوالله ما أعرفه غير عمر. وعن سالم عن أبيه: أنه كان إذا ذكر عمر قال: لله در عمر، لقلَّما سمعته يقول يحرك شفتيه بشيء قط يتخوفه؛ إلا كان حقًّا. عباد الله: لقد كان عمر يرجع إلى الحق متى علمه، وقصة رد المرأة عليه دليل على كمال فضله ودينه وتقواه، ورجوعه إلى الحق إذا تبين له، وأنه يقبل الحق حتى من امرأة، ويتواضع له، وأنه معترف بفضل الواحد عليه، ولو في أدنى مسألة، وليس من شرط الأفضل ألَّا ينبهه المفضول لأمر من الأمور، فقد قال الهدهد لسليمان: ? أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ? [النمل: 22]. وبالجملة، فهذا باب يطول وصفه، وعمر أكمل الصحابة بعد أبي بكر، والصحابة أعلم الأمة وأفقهها وأدينها؛ ولهذا أحسن الشافعي رحمه الله في قوله: هم فوقنا في كل علم وفقه ودين وهدًى، وفي كل سبب يُنال به علم وهدًى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، أو كلامًا هذا معناه. وقال أحمد بن حنبل: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما أحسن قول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه؛ حيث قال: أيها الناس، من كان منكم مستنًّا، فليستنَّ بمن قد مات، فإن الحي لا تُؤمَن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقال حذيفة رضي الله عنه: يا معشر القراء، استقيموا، وخذوا طريقَ مَن كان قبلكم، فوالله لئن استقمتم؛ لقد سبقتم سبقا بعيدًا، وإن أخذتم يمينًا وشمالاً، لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا. "
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.