أرجوزة مختصرة في حوادث سني الهجرة للعلامة عبدالله بن سعيد اللحجي
الكاتب:
المدير
-
"اتصال السماء بالأرض وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم حدثًا عاديًّا، ولم يمرَّ دون أن يهتز له الكون، وتستغرب له الجن والإنس، وإن كان الجن والإنس ظلوا مدة من الزمن يرون هذه الإرهاصات ولا يعرفون لمن هي، ولا يُدركون تمامًا ما وراءها إلى أن سَمعوا القرآن الكريم من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والهَدْي المُبين منه وعنه. فقد رأى الجن تغيرًا غريبًا طرَأ على حياتهم، وعلى ما يقومون به من أعمال في مجال خدمة الكهَنة والكُهَّان، وما كان يَستتبع ذلك، من دنوٍّ من السماء واستراق السمع من الملائكة، والقرآن الكريم يُحدِّثنا بذلك على لسانهم، ويَصف لنا المباغتة التي ووجهوا بها في هذا المجال؛ وذلك حين يقول مخاطبًا الرسول صلى الله عليه وسلم: ? قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا * وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا * وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ? [الجن: 1 - 10]. وحقًّا قالوا: ? وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ?، فقد كان الأمر عجبًا، وكان الحادث خطيرًا فإنهم كانوا يَسترِقون السمع كما قالوا: ? وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا ?؛ وذلك أنه في الفترة التي فتَر فيها الوحي عن الأرض بعد رسالة عيسى عليه السلام، تركت السماء دون حرس كما كانت تُترك دائمًا في الفترات التي تَخلو الدنيا فيها من الأنبياء فكانت الشياطين تتَّخذ لها أماكن في جوانب من السماء تَنتظِر نزول الملائكة وصعودهم إلى أهل الأرض ومن عند أهل الأرض، فيسأل الصاعدون النازلين عما هناك من جديد من الأخبار التي أعلمَهم الله بها، مما يتَّصل بأهل الأرض من الناس وغيرهم، وما يتَّصل بمُختلف شؤون حياتهم، مما يكون للملائكة دور فيه وتكليف من اللَّه نحو القيام به، فيستمع الشياطين إلى أحاديثهم، وينقلون هذه الأحاديث إلى الكهان الذين اتَّصلوا بهم واستخدموهم، وقد يُلقون الخبر كما هو مجردًا، وقد يُضيفون إليه أشياء من عند أنفسهم، من باب عدم الإخلاص للكهان والتغرير بهم وفتنتِهم، فيلقيه الكهان للناس، وقد يكون صادقًا وقد يكون كاذبًا، كما صرح بذلك (عبداللَّه بن صياد) الذي كان قد ادَّعى النبوة في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأُتي به للرسول صلى الله عليه وسلم وسأله عن حقيقة أمره وقال له: كيف يأتيك هذا الأمر؟ قال ابن صياد: صادق وكاذب، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اخسأ فلن تعدو قدرك)) أي إنما أنت من إخوان الكهان، ولست من الأنبياء؛ لأن النبوة لا تكذب أبدًا، فهنا قد أجاب ابن صياد بصراحة فبانت لنا الكهانة من النبوة، وأن الكهانة شيطانية وأن هذا هو طريقها. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك: ((إن الملائكة تَنزل في العنان - وهو السحاب - فتَذكر الأمر قُضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتوحيه إلى الكهان، فيَكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم))، فقد تكذب الشياطين وقد تَكذب الكهان، وهذا هو الفرق بين النبي والكاهن. وبذلك رد اللَّه سبحانه على مشركي قريش حين كانوا يدَّعون بأن النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه رئي من الجن، فقال لهم: ? هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ? [الشعراء: 221 - 223]. فلمَّا حانت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم حفظت السماء من هذه الشياطين؛ وذلك لأمرين: الأول: صيانة ما يتلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي عن أن تلغوا فيه الشياطين؛ كي يكون خالصًا كل الخلوص لله وأنه من عند اللَّه حقًّا كما قال: ? وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين ? أي: الذي لا يكذب كما تكذب الشياطين، والأمين في النقل يَنقل ما سَمع كما سمع، ? عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ? [الشعراء: 192 - 194]. وكما قال في سورة الجن: ? عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ? آخر سورة الجن. والأمر الثاني: وهو صيانة الدعوة والرسالة عن أن يصل منها أي شيء إلى الكهان عن طريق الشياطين، ومنع الشياطين من أن تسترق شيئًا مما يُوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك منع الكهان أيضًا ومدعي الغيبيات، من أن يأتوا بمثل ما أتى للرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك لم نجد عندهم على الإطلاق شيئًا مما أتى به الرسول، ولم يدَّعوا أن عندهم شيئًا من ذلك، ولم يجرؤ أحد منهم على هذا الادِّعاء؛ لأنهم لو ادعوا لطُولبوا بتقديمه، وقد طولبوا بالفعل بالإتيان بمثل القرآن الكريم، أو بمثل سورة أو آية منه، دون أن يدعوا أن عندهم شيئًا من ذلك، فعجزوا وقال فيهم القرآن الكريم مسمعًا لهم ذلك ومخاطبًا لهم: ? وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? [البقرة: 23]، وقائلاً: ? قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ? [الإسراء: 88]، وهذه عادة متبعة عند بعثة رسول من الرسل، تُحفظ السماء من الشياطين وتبعد الشياطين عن أن تسترق شيئًا، وهذا من جانبٍ إجلالٌ لأمر اتصال السماء بالأرض، وتنزل وحي الله على أنبيائه، ومن جانب آخر إرهاص عظيم وبشارة طيبة، وتعظيم لأمر هذا الاتصال ولشأن الرسول المبعوث. ولذلك لما حصل هذا مع بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، هال الجنَّ هذا الأمر العظيم، وبُهتوا، وأثَّر فيهم بشدة، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا نبحث، وننظر ما هذا الأمر، وظلوا يتقلَّبون في الكون وفي الجزيرة العربية حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يقرأ في جوف الليل، فاستمعوا لقراءته، وعرفوا أنه هو النبي المبعوث، وأن هذا هو سر حفظ السماء منهم، فزال عنهم هذا الاستغراب المتقدم والذي أشارت إليه آيات سورة الجن. وتمام القصة - كما جاءت في آيات سورة الأحقاف -: ? وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ... ? إلى أن قالوا مؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم، وداعين قومهم إلى الإيمان به: ? يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ? [الأحقاف: 29-32]، وكما قصَّت عنهم آية سورة الجن: ? وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا ?، وقد كانوا محقين حين قالوا في مبدأ الأمر تعليقًا على حفظ السماء منهم: ? وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ?، فقد كان حفظ السماء منهم حدثًا عظيمًا وأمرًا خطيرًا، ولا يكون ذلك إلا لأمر يُغيِّر وجه الحياة إما إلى خير أهل الأرض، وإما إلى شرهم والانتقام منهم، وقد كان ذلك إلى خير أهل الأرض. وأما استغراب الإنس لأمر حفظ السماء من الشياطين وطروء التغيُّرات العظيمة عليها فيحدثنا عنه هرقل - قيصر الروم أو ملكهم - حين أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم رسالته التي يدعوه فيها إلى الإسلام هو وأهل مملكته، فيقول لأبي سفيان رضي اللهُ عنه بعد أن سأل أبا سفيان عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعن صفاته، وأجابه أبو سفيان بالصدق، وكان هرقل ينظر في النجوم وعلى خبرة بعلم الفلك، ويُدرك التغيرات التي تطرأ على السماء، وعلم بما في التوراة والإنجيل: ... وقد كنتُ أعلم أنه خارج، ولو صحَّ ما قلت - يا أبا سفيان - فسيَملك موضع قدمي هاتين، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ولو أعلم أني أصل إليه لتجشَّمت لقاءه. فهذا هو النبي الأمي، وهذه هي بعثتُه، خير وبر على أهل الأرض جميعًا من يوم أن بُعثَ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. والعبرة من وراء حفظ السماء إيذانًا ببعثته، ومن وراء اتصال السماء بالأرض ونزول جبريل بالوحي صلى الله عليه وسلم هي: أن ذلك أمر فصل، وما هو بالهزل، وأن الله يريد أن يشعر أهل الأرض بمدى أهمية القرآن العظيم الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كما قال: ? لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ? فذلك هو الذي يجب أن يكون بالنسبة لبني آدم. فلينظروا إلى أن الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، والمحيي والمميت، والقابض والباسط، والذي إليه يرجع الأمر كله، ويرجع إليه أمر الكون بما فيه من قدرة باهرة، وخلق كبير، ونظام دقيق، وجمال بديع، وإنعام على بني البشر بما خلق الله من مختلف صنوف النعم في هذا الكون وسخرها ويسرها لهم، إذا خاطب أهل الأرض بواسطة رسوله وقرآنه، فما معنى هذا؟ أليس معناه: تكريم الإنسان المخلوق الضعيف، وإظهار اعتباره؟ وإذا كرم الله الإنسان هذا التكريم، فلماذا لا يكرِّم الإنسانُ نفسَه عند بارئه بقبوله تكريمه له؟ أليس معناه: لطف بالإنسان؛ كما قال: ? اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ?؟ فلماذا لا يلطف الإنسان مع نفسه ومع الله بطاعته والعمل بقرآنه، أليس معناه أنه نداء من الله للإنسان بأنك - أيها الإنسان - إذا استمتعت بنعم الله عليك من ماء وهواء، وبما حوى الكون من نِعَم خلَقها الله ونزلها عليك، ألا يجمل بك أن تَستمتِع بنعمة القرآن وهدى الإسلام وتَحظى بما جاء فيهما من خير كما تستمتع بنعمة الهواء والماء والسمع والبصر.. إلخ، وأليس الكل من عند الله، فلماذا تأخذ بعضًا وتترك بعضًا، وتؤمن ببعض وتَكفُر ببعض؟ إنه لا تتمُّ سعادتك ولن تكتمل لك الحياة، إلا إذا أخذت كل ما جاء من عند الله جملةً، وما أنعم به عليك من نعمة الحياة الدنيا ونعمة الدين معًا. ألا فلنَنظر إلى قيمة القرآن الكريم وإلى قدر بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في ضوء ذلك الاتصال بين السماء والأرض، وذلك التلطف من الله، فما فعل الله ذلك إلا ليُحفِّزنا إلى النظر إلى قيمة القرآن وتقديره قدره، فكبير جدًّا وعظيم ذلك الاتصال، تلك العظمة، وذلك الكبر الذي حفظ الله له سماءه، وذلك الحفظ الذي تعجَّبت له الإنس والجن. المصدر: مجلة التوحيد، عدد رمضان 1399 هـ، صفحة 40. "
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.