"بيت علَّم الدنيا الحبَّ مِن أعظمِ ما جَبَلَ اللهُ عليه البَشَر: ميلُ الجنسين - الذكر والأنثى - كليهما إلى الآخر، حيث إنهما في الأصل وحْدة واحدة؛ كان الرجل، ثم كانت منه المرأة، وأَودَع الله في كلٍّ منهما للآخر ذلك الحنينَ السرمدي، حنين الكل إلى جزء انساب منه، وحنين الجزء إلى كلٍّ كان يحويه، هذا الحنين إلى الاندماج العاطفي والروحي والجسدي، هو الذي كان به حفظُ الجنس البشري. والإسلام كدينٍ يُراعي فطرة البشر، لم يُهمل جانبَ الإشباع العاطفي، حيث إن العاطفة لا بد لها مِن انطلاقة، فكان الزواج هو الرابطةَ المقدَّسة التي تحتوي بدفئها الحبَّ بين الطرفين. الحب بين الزوجين كان، ولا يزال دعامةً حيويةً لاستمرار الحياة الزوجية ونجاحها، وكذا هو محلُّ اهتمامٍ مِن قِبل الإسلام، هذا الاهتمام لا يُرجَى له بيانٌ أوضح وأعمق مِن واقع النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أودع الله فيه - مع الخلق الفريد - الشفافيةَ، والحس المرهف، والعاطفة الحية، والتي لا نَستَنكف عن الترنُّم بها؛ إذ هي مِن مظاهر تكامل شخصيتة صلى الله عليه وسلم، واستيعابِها لكل خصال الخير، ولم يَعرف البشَرُ حبًّا أسمى وأروع مِن ذلك البيت الذي تألَّق بين جدرانه الحبُّ في أعلى وأطهر صورِه، إنه بيت النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة، ذلك البيت الذي علَّم الدنيا الحب. بالرغم من قيامه صلى الله عليه وسلم بأعباء الرسالة، والجهاد والكفاح المستمرَّين، إلا أنه لم يتنازل عن مراعاة الجانب العاطفي لدى زوجته الحبيبة؛ يُسأل النبي صلى الله عليه وسلم: مَن أحبُّ الناسِ إليك؟ فيقول: ((عائشة))، فيُقال: مِن الرجال؟ فيقول: ((أبو بكر))، يُعلنها صراحة دون حرج، وكأنه يعتز بمحبته عائشة، حتى إن هذه المحبة كانت معروفة لدى الصحابة؛ مما حدا بهم إلى انتظار نوبة عائشة؛ ليقدِّموا الهدايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنه في خلافة عمر فرَض الفاروق لأمهاتِ المؤمنين عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين، فسُئل عن ذلك، فقال: (إنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وكان مسروق رحمه الله إذا روى عن عائشة قال: (عن الصدِّيقة بنت الصدِّيق، حبيبة رسول رب العالمين). وفي مرضه صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه، كان مِن شوقه لعائشة أن كان يسأل نساءه: ((أين أنا غدًا؟))، ففهمْنَ أنه يريد عائشة، فأذِنَّ له أن يُمَرَّضَ في بيتها، وقد كان هذا الحب قرينَ طاعة الله؛ إذ كان النبيُّ يصلي في فراش عائشة، ويتنزل عليه الوحي في فراشها، ويقرأ القرآن في حجرها. لذا يقول ابن القيم في الجواب الكافي: إنَّ عشْق النساء ثلاثة أقسام: قسم هو قربة وطاعة، وهو عشق الرجل امرأته، وهذا العشق عشق نافع، فإنه أدعى إلى المقاصد التي شرع الله لها النكاح، وأكفُّ للبصر والقلب عن التطلُّع إلى غير أهله؛ ولهذا يحمد هذا العشق عند الله وعند الناس. وكانت عائشة تُدرك محبَّة النبي لها، وتحبه حبًّا شديدًا، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يُداعبها بكلماته التي تفيض حبًّا وحنانًا: ((إني أعرف عندما تكونين غاضبة مني، تقولين: وربِّ إبراهيم، وعندما تكونين راضية عني، تقولين: ورب محمد))، فتقول هي في حنانٍ مُعَبِّرة عن عظيم محبتها: (والله يا رسول الله، لا أهجُر إلا اسمك). وبلغَت محبَّتُها مبلغًا عظيمًا جعلها تشتدُّ في الغيرة عليه، ومن ذلك أنه في بعض أسفاره أقرع بين نسائه، فطارت القرعة على عائشة وحفصة، فكان يَسير بالليل مع عائشة ويحدِّثها، فطلبَت حفصة مِن عائشة أن تُبادلها البعير، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلَّم وسار معها، فافتقدتْه عائشةُ فغارت، وجعلَت رجلها بين الإذخر الذي غالبًا ما توجد فيه الهوام، وتقول: (يا رب، سلِّط عليَّ عقربًا تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول شيئًا). ولما خَيَّرَ النبيُّ نساءه في البقاء معه؛ امتثالًا لأمْر الله: ? قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ? [الأحزاب: 28، 29]، فبدأ بعائشة: ((إني أريد أنْ أَعْرِضَ عليك أمرًا، أُحبُّ ألَّا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك))، فتلا عليها الآية، قالت بغير تمهُّل: (أفيك أستشير أبويَّ؟! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة). ويمكننا القول بأن هذه العاطفة السامية في قلبَيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وزوجِه الطاهرة، شمسٌ تُرسل أشعَّتها في حياة كل الأزواج المحبِّين؛ كي يَستضيئوا بضيائها، ويَضْبطوا هذه المحبة وفقًا لما قعَّدتْه علاقة النبي بعائشة؛ فإن لنا فيه أسوةً في كل شيء. فمِن ذلك: 1- التعبير والإفصاح عن هذا الحب، وهو مما يزيد الرابطة بين الزوجين، وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يصرِّح في أكثر مِن موضع بحبه لعائشة، فتدخل عليه فاطمة وتقول: (إنَّ أزواجك أَرْسَلْنَنِي يسألْنَكَ العدل في ابنة أبي قحافة)، فقال: ((أيْ بُنيَّة، ألستِ تحبين ما أُحبُّ؟))، قال النووي: أي: في محبة القلب. 2- أن المحبة لا تُسَوِّغ التهاونَ في أمر الله، أو الحيدة عن الحق، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا تحْمِلُه محبَّةُ عائشة على الجَوْر في القسمة بينها وبين سائر أزواجه، وذات يوم غارتْ عائشة مِن حُسن ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة، فقالت عائشة: (ما أكثر ما تذكُرها حمراء الشدق، قد أَبْدَلَكَ الله عز وجل بها خيرًا منها)، فيقول واضعًا الأمور في نصابها: ((ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها؛ قد آمنتْ بي إذ كفر بي الناس، وصدَّقتْني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها...)). 3- أن المحبة الصادقة تعني إيثارَ مَحَابِّ الطرف الآخر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُتابِع عائشة على ما تحب، ما لم يكن محظورًا، ولما قام النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو عند عائشة، قال: ((ذريني أتعبَّد لربِّي))، قالت: (والله إني لأحبُّ قربَك، وأحب ما يَسرُّك). 4- أن هذه المحبة لا بد مِن ترجمتها إلى واقعٍ يعبِّر عنها، وقد كان ذلك واضحًا جليًّا في حياة النبي، الذي تُمَثِّل أعلى درجات الأدب والذوق الرفيع، تراه يتعمَّد الشربَ مِن موضعِ فِي عائشةَ وهي حائض؛ بل ويُباشرها فيما دون الفرْج في حيضتها، وذلك مِن وجهة نظري وأدٌ لِمَا كان مِن عادات الجاهلية، وما تضمَّنتْه مِن استقذار المرأة حال الحيض. وترى النبي من ناحية أخرى يتلطَّف في حديثه معها، فيناديها بـ ((عائش))، وهو ما يُعَدُّ عند العرب تدليلًا، ويعدُّ حديث (أمِّ زرعٍ) الطويلُ - الذي ذكرتْه عائشة أَمام النبي - مثالًا فريدًا للاستماع العاطفي، الذي يُنْصِت فيه المستمِعُ بأذنه وكيانه، متفاعلًا مع المتكلِّم، مهتمًّا بما يقول، فحديثٌ يزيد عددُ كلماته على ثلاثمائة، والنبي لم يقاطع بكلمة، وينصت باهتمام وتركيز، مع ما لديه مِن شواغل، لهو واللهِ قمَّةُ الذوق والأدب مع الزوجة. ولقد كان صلى الله عليه وسلم يهتمُّ بالجانب الترفيهيِّ الذي يُدخِل عليها السرور، فتقول عائشة: (كنتُ أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم مِن إناءٍ بيني وبينه، فيُبادرني حتى أقول: دعْ لي، دع لي)، وهو ما يُوحي بجوِّ المرح والمداعبة. بل كان - وهو صاحب الكفاح المستمرِّ، والمهامِّ العظيمة - يُسابق عائشةَ، فتسبقه مرة، ويسبقها أخرى، ولم يَستَنكِف الحبيب أن يكون في خدمتها، مؤصِّلًا بذلك معاني الرجولة وقوة الشخصية؛ مِن أنها ليست بالغلظة والجفاء والتسلُّط، فإنه كان مع كل هذا الحبِّ والحنان حازمًا في موضع الحزم، كما دافع بحزم عن خديجة رضي الله عنها، والتي كانت تغار منها عائشةُ برغم أنها ليست على قيد الحياة. وإذا سألتَ عن التغافُل والتغاضي، فإنه كان فنًّا لم يوازِ أحدٌ فيه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقد تُراجِعه أو تحتدُّ عليه، فيتحمَّلها عن غير ضعف، وقد يتخاصمان ويحتكمان إلى أبيها، قالبٌ مِن الحياة ورديٌّ، ينمُّ عن أسمى وأنبل عاطفة كانت لقلبين. 5- لقد نَسَفَ ذلك الحبُّ الطاهرُ بين النبي وزوجه، كلَّ مزاعم الزاعمين مِن أن الزواج لا بد وأن تسبقه علاقة عاطفية، يَنْبَني عليها العُشُّ السعيد، فهذا محض هراء، فالواقع يَشهَد أن أغلب الزيجات التي قامتْ على أساس الحب المجرد عن النظر في معايير الانتقاء التي بَيَّنَها الإسلامُ - تَبُوءُ بالفشل، ويموت على أعتابها الحبُّ بين الطرفين، حيث تختفي اللهفة، وتخفتُ النارُ المتأجِّجة، فلا يكون ثمة ما يعول عليه في نجاح الحياة الزوجية، سوى الأخلاق والعِشْرة الطيبة، وهو ما لم يُراعَ في الغالب عند الانسياق وراء العاطفة. أما الحبُّ الذي يَنشَأ بعد الزواج، فهو الحبُّ السامي الشامخ، الذي لا تنال منه العواصف؛ إذ إنه حبٌّ حقيقيٌّ، قام على أساسٍ مِن الطاعة والواقعية. فتلك هي صورة الحبِّ الحقيقيِّ الطاهر، لا ما تأصَّل في حس الناس مِن أنَّ صورتَه تتمثَّل في العلاقة بين اثنين بغير زواج، يسيرانِ مُشَبِّكَين يديهما، ويَبْنِيانِ المستقبل المُشْرق، عبْر الأحلام الوردية، ولا مانع من القبلات والعناق، ما دام الزواج هدفًا، وبعد الزواج - إن تم - يتساءل كلٌّ منهما: أين الشوق؟! أين اللهفة؟! أين النار المستعرة؟! لقد ذهب كل ذلك؛ لأن الأساس كان واهيًا. صلوات ربي وسلامه عليك يا رسول الله، ورضيَ اللهُ عنكِ يا أم المؤمنين؛ فقد عَلَّمْتُما البشريةَ كيف يكون الحبُّ. "
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.