آيات منيرة في أحداث السيرة (1)

الكاتب: المدير -
آيات منيرة في أحداث السيرة (1)
"دلالة مصطلح السيرة بين ابن هشام والحاكم الحمد لله كافي أوليائِه بما يشاء وكيف يشاء، والصَّلاة والسَّلام على مَن أعلى في نصرة دينِه أشرف لواء، وعلى آله وصحْبه الماجدين النجباء، ومَن صان بعدهم لله ورسوله حقَّ الولاء.   أمَّا بعد: فقد تقدَّم في موضوعٍ مستقلٍّ بيانُ المخرج الدلالي لمصطلح (السيرة) وأطْوار نضْجِه وسموقه، وفيما يلي بيان ما تميَّز به مصطلح (السيرة) عند الإمام ابن هِشام، مهذِّب سيرة الإمام ابن إسحاق، وعند الإمام الحاكم؛ تمهيدًا لكشْف ما رعى به المحدِّثون أهل المناهج العلميَّة الدقيقة هذا المصطلح الفريد.   مصطلح السيرة عند ابن هشام: أحقُّ حدٍّ للسيرة بالتَّقديم حدُّ ابن هشام، الَّذي نصَّ عليْه وهو يذكر منهجَه في تهذيبه لسيرة الإمام ابن إسحاق، قال: وأنا - إن شاء الله - مُبتدئٌ هذا الكتاب بذِكْر إسماعيل بن إبراهيم، ومَن ولدَ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِن ولدِه، وأولادهم لأصلابهم، الأوَّل فالأوَّل، من إسماعيل إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وما يعرض من حديثهم.   وتاركٌ ذِكْرَ غيرهم مِن ولد إسماعيل على هذه الجهة؛ للاختصار إلى حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.   وتارك بعضَ ما يذكُره ابنُ إسحاق في هذا الكِتاب؛ ممَّا ليس لرسولِ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم فيه ذكْر، ولا نزَلَ فيه من القرآن شيء، وليس سببًا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرًا له، ولا شاهدًا عليه؛ لما ذكرتُ من الاختصار[1].   وأحسَنُ ما في هذا الحدِّ الجامع تَخصيصُ السيرة بدلالة الاصطِلاح، التي تخلصه مِن عموم الاشتِقاق، وترفعه كسائر العلوم والمعارف المعتبَرة إلى درجة التَّمام والاستِقْلال.   فأفراد مصطلح (السيرة) في كلامه المتين ثلاثةٌ: الأوَّل: ما فيه ذِكْر لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من الأخبار. الثَّاني: ما نزل فيه من القُرآن شيء. الثَّالث: ما يُستعان به على فهْم ما ذكر بيانًا لمعْناه.   أمَّا القَيد الأوَّل، فيدخل القرآن والسُّنَّة، ومنها ما بقي محفوظًا من نصوص الوحْي القديمة المشتمِلة على أوْصاف النَّبي صلَّى الله عليْه وسلَّم، والتَّبشير ببعثتِه.   أمَّا القيْد الثَّاني، فيدخل أسباب النُّزول لتعلُّق الأحوال المنشِئة لها بالنَّبيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم الذي ينزل عليْه القرآن، ولا يخفَى أنَّ السَّبب الأعظم لنزول القرآن وجودُ النَّبي صلَّى الله عليْه وسلم؛ ففي كلِّ آيةٍ من آي القرآن سيرة تستدعي الكشْف والإثارة على جهة التَّصريح أو الإشارة.   أمَّا القيد الثالث، فيدخل المصنَّفات التي اعتنتْ بشرح متون السيرة النبويَّة، كـ الروض الأنف للإمام السهيلي، وكذا المصنَّفات التي استخرجت عبر أحداثها ومشاهدها، كالكتب المصنَّفة في فقه السيرة النبويَّة.   وقد وافق ابنَ هشام في استثناء ما ليْس داخلًا في حدِّ السيرة من عمل ابن إسحاق - الإمامُ الكلاعي، حين كشف عن منهجِه في تصنيف كتابه الاكتفاء، فقال - في معرض ثنائه على ابن إسحاق -: فإنَّه الذي شرب ماء هذا الشَّأن فأنقع، وحلَّ كتابُه مِن نفوس الخاص والعام أجلَّ موقع؛ إلَّا أنَّه تخلَّله - كما أشرْنا إليه قبلُ - أشياءُ من غير المغازي تقدحُ عند الجمهور في إمتاعه، وتقطع بالخواطر المستجْمعة لسماعه.   وإن كانت تلك القواطعُ عريقةً في نسب العلْم، وحقيقة بالتَّقييد والنظْم، فعسى أن يكون لها مكان هو بإيرادها أخصُّ؛ إذ لكل مقام مقال لا يحسن في غيره الإيراد والنَّصُّ.   ولذلك؛ نويْتُ فيه أن أحذف ما تخلَّله من مشبع الأنساب الَّتي ليس احتياج كلِّ الناس إليها بالضروري الحثيث، ونفيس اللُّغات المعوق اعتراضُها اتِّصالَ الأحاديث، حتَّى لا يبقى إلَّا الأخبار المجرَّدة، وخلاصة المغازي الَّتي هي في هذا المجْموع المقصودة المعتمدة.   ظنًّا منِّي أنَّه إذا أذِن الله في تمامه، وتكفَّل تعالى بتيْسير محاولته وفق المأْمول وتقْريب مرامه، استأنفت النفوس له قبولًا، وعليْه إقبالًا، ولم يزده هذا النَّقْص لدى جمهورهم إلَّا كمالًا[2].   فقوله: إلَّا أنَّه تخلَّله - كما أشرْنا إليْه قبل - أشْياء من غير المغازي، وقوله: حتى لا يبقى إلا الأخبار المجرَّدة، وخلاصة المغازي التي هي في هذا المجْموع المقصودة المعتمدة - صريحانِ في أنَّ مُراده قصر الاهتِمام على ما يدلُّ عليْه مصطلح السيرة، وحياطته بما يدفع عن حدِّه ما ليس من أفرادِه.   أمَّا دلالة المغازي في كلامِه، فهي أعمُّ مِن أن يريد بها مجرَّد أخبار الغزْو والجهاد، لاسيَّما وأنَّه قد صرَّح في نفس الموطن بمقْصده من تأليفِه، فقال: وهذا كتاب ذهبتُ فيه إلى إيقاع الإقناع، وإمتاع النفوس والأسماع، باتِّساق الخبر عن سيرة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وذكْر نسبه، ومولده، وصفته، ومبعثه، وكثير من خصائصه.   مصطلح السيرة عند الحاكم: لم يضَع أهل الحديث لمصْطلح السيرة حدًّا صريحًا مع تقدُّمهم في جمْع مروياتها وترتيبها، لكنَّهم ذكروه بصِيغ مختلفة، تبعًا لاختِلاف المناهج التي سلكوها في تصْنيف مصنَّفاتهم، وفيما يلي نصٌّ للإمام الحاكِم من كتابه الشَّهير معرفة علوم الحديث، يقرب دلالة هذا المصطلح، صرَّح فيه بذكر علْم المغازي وعدَّ أفراده دون كثيرٍ من المصنِّفين في علم الحديث.   قال الحاكم رحِمه الله، في بيانِ النَّوع الثَّامن والأربعين من أنواع علْم الحديث: هذا النَّوع من هذه العلوم: معرفة مغازي رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وسراياه وبعوثه. وكتُبه إلى ملوك المشركين. وما يصحُّ من ذلك وما يشذُّ. وما أبْلى كلُّ واحد من الصَّحابة في تلك الحروب بين يديْه. ومَن تَدَيَّنَ بنصرته صلَّى الله عليه وسلَّم، ومَن نافق. وكيف قسم رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم الغنائم، ومن زاد، ومَن نقص. وكيف جعل سَلَبَ القتيلِ بين الاثنين والثَّلاثة. وكيف أقام الحدود في الغُلول. وهذه أنواع من العلوم لا يَستغني عنْها عالِم[3].   فوائد هذا النص: 1- السيرة النبوية نوعٌ من الأنواع المؤلِّفة لعِلم الحديث، فعِلم الحديث - بحسب تقرير الحاكم – مرجع مصطلح السيرة، ونسَبه العلمي الأصيل. 2- ما ذكره الحاكم مِن الأجزاء المؤلِّفة للمغازي طرفٌ ممَّا دلَّ عليه حدُّ السيرة النبويَّة في كلام ابن هشام الفارط. 3- الغالب على تقْسيم الحاكم اعتِبار المعْنى الجزئي لمصطلح السيرة، وهو طريقة المسلمين في معاملة الكافرين وغيرهم مِن المُستأْمنين والمرتدِّين وأهل الذمَّة، وإلَّا فإنَّ معناه أوْسع من ذلك، كما سيأتي في محلِّه، إن شاء الله. 4- مصطلح المغازي أقْدم مِن مصطلح السيرة، وإن كان مصطلح السيرة أشمل؛ لتناوله ما ذكره الحاكم وغيرَه ممَّا ذكره ابن هشام. وأقْدم مِن لفظِ المغازي لفظُ (المَشاهِد) الوارد في قول غيلان بن جرير: كنَّا ندخل على أنس بن مالك، فيحدِّثُنا بمناقب الأنصار ومشاهدِهم، ويُقْبل عليَّ أو على رجُل مِن الأزد فيقول: فعل قومُك يومَ كذا كذا وكذا ..[4].   وليس بين (المغازي) و (المشاهد) كبير تباين؛ لأنَّ المشاهد هي (المواطن)[5]، وهي هُنا مواضع الغزْو ومجامعه؛ كما قال حسَّان بن ثابت رضِي الله عنْه يفخر بأحد الصَّحابة الأنصار: وَمِنَّا قَتِيلُ الشِّعْبِ أَوْسُ بْنُ ثَابِتٍ ??? شَهِيدًا وَأَسْنَى الذِّكْرِ مِنَّا المَشَاهِدُ[6]   5- مصطلح السيرة أدقُّ من مصطلح المغازي، ويؤيِّده قول الحافظ ابن حجر تحت قوْل البخاري كتاب الجهاد والسيَر، قال: جمع سيرة، وأطلق ذلك على أبواب الجهاد؛ لأنَّها متلقَّاة مِن أحْوال النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في غزواته[7].   فالسيَر - على هذا - هي الأحْوال النبويَّة عامَّة، والأحوال المتعلِّقة بالغزوات طرفٌ منها، فكلُّ غزْوة سيرة، وليس كلُّ سيرة غزوة.   وهذا ما أوْمأ إليْه حدُّ ابن هشام الفارط: أنَّ السيرة النبويَّة جماع الهيْئات النبويَّة الكريمة بعد بعثة النَّبيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم وقبلها، وفي حياته عامَّة، وقبل وجوده؛ لذلك عدُّوا نبوَّته قبل خلق آدم عليه السلام، وتبشير الأنبياء ببعثتِه قبل حصولها من الخصائص النبويَّة ذات النَّسب الأصيل في عِلم السيرة النبوية، فوجه دقَّة مصطلح السيرة: أنَّ هذه الأجزاء جميعًا وغيرها لا تنتظم في سلك مصطلح سواه، أمَّا مصطلح (المغازي) فإنَّه يضيق ببعضها.   فالحاكم رحمه الله إنَّما راعى أوَّليَّة الإطْلاق، أمَّا ابنُ هشام فقد قصد إلى إكْساب مصطلح السِّيرة استقلالَه، وبيان وجْه استحقاقه التفرُّد والاختِصاص.   والمصْطلحات أحْوج ما تكون في وضْعِها إلى التملِّي، وحدَّة الإبصار؛ لأنَّ كلَّ مصطلح جنس ينبغي أن تنتظم فيه كلُّ أفراد العِلم الذي يَصير علمًا عليْه.   ومِن لطيفِ الموافقاتِ الدَّالَّة على مناسبة مصطلح السيرة لِما أُطلق عليه: أنَّ مِن دلالات لفظ السيرة في اللغة: (النظام)؛ كما قال ابن منظور: والنظام: الهديَّة والسيرة[8].   وأصل النظام: الانتقاء، والضم، والتَّرتيب[9]، والانتظام: الاتّساق[10].   فالسيرة - بالنَّظر إلى جلال مقام صاحبِها، صلَّى الله عليه وسلَّم – نظام، نظمتْ في سلكِه أحواله الشَّريفة على نمط بديعٍ لائق بكمال اصطِفائه، ورفيع مكانِه.   وهي نظام بالنَّظر إلى مسوغ الانتِفاع بها وداعيه، فقد نقلتْ ودوِّنتْ مرتَّبة السَّوق، تامَّة القسام، كاملة الوسام، لم يهْمَل منها جليل ولا دقيق.   وهي أيضًا نظام بالنَّظر إلى الغاية مِن بعثةِ صاحبِها صلَّى الله عليه وسلَّم، فأحواله الشَّريفة المنيفة بيانٌ لِما اشتمل عليه التَّنزيل، ولما كان شرط البيان الوضوح لزِم أن يكون جيِّد التَّأليف، ملتئم الرصف، حسن التَّركيب، ومَن تأمَّل سيرة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم وَجَدَ كلَّ يوم منها، وكل هدي، وكلَّ حالٍ من الاتِّساق وعجيب التَّناسُب، بحيث صارت في نفسِها معجزة من معجزاته، ومِن أنفَس ما قيل في هذا المعنى قول الإمام ابن حزْم: فلوْ لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى[11].   هذا مِن وجوه التَّمايُز بين لفظي السيرة والمغازي، وهو لا ينفي إمكانَ الجمع بينهما؛ إذ المغازي تُطلق ويرادُ بها: مواضع الغزْو ومتوجهات الغزاة، كما تُطلق ويُراد بها أيضًا: مناقب الغزاة[12]، أو المناقب مطلقًا؛ قال العلَّامة الزمخشري: وتقول: هو بالمخازي أشهر منه بالمغازي[13].   كذلك السيرة؛ فإنَّ متعلّقها عدُّ أحوال النَّبيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم، والتَّنويه بخصاله، وكلُّها مآثر ومناقب شاهدةٌ على جلال قدرِه وشرف محلِّه، فلا عجب أن صارت (المغازي) (سيرة)، ما دام المعبر الدلالي الذي جازت عليه معتبرًا من جهة اللغة، متَّجهًا بالنظر إلى المراد من استِعْمال المصطلح.   وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم. [1] سيرة النبي صلَّى الله عليه وسلم، لابن هشام 1 / 4 . [2] الاكتفاء في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء: 1 /2. [3] معرفة علوم الحديث: ص 238. [4] أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار من صحيحه، باب مناقب الأنصار: 7 /110 فتح. [5] لسان العرب: شهد. [6] ديوانه: ص 170. [7] فتح الباري: 6 /4. [8] اللسان: نظم. [9] الصحاح: نظم. [10] نفسه. [11] الملل والنحل 2 / 90. [12] لسان العرب: غزا. [13] أساس البلاغة: ص 450. "
شارك المقالة:
175 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook